النصر عطراً
د. ديمة طهبوب
في الحرب العالمية الثانية وصلت هيروشيما و نجازاكي بعد ضربهما بالقنابل النووية الأميركية نهاية كل أشكال الحضارة الإنسانية و لم يبق من الأرض و الإنسان شيء سوى الحطام، و ركعت اليابان و ختمت صفحة من التفوق و التحدي العسكري للقوى الكبرى.
كان هدف أمريكا تجريب أسلحتها الجديدة و تلقين العالم و أعداءها درسا لن ينسوه و محو المدينتين عن الخريطة و قد كادوا أن ينجحوا فنتائج الدمار الذي ما يزال أهل المنطقتين و ما حولهما يذوقونه الى اليوم في صحتهم و تلوث حياتهم ،كان كافيا ليقتل كل بذرة حياة وليدة لولا عنصر واحد لم يحسب له الأمريكان حسابا و لم يطوروا سلاحا للقضاء عليه و هو الإرادة البشرية التي جعلت العنقاء اليابانية تحيي الأسطورة حقيقة أمام العالم و تنهض من رماد و غبار القنابل النووية لتصبح من الدول الرائدة في مجال التصنيع التكنولوجي عالميا بعد ان حُظر عليها التصنيع العسكري.
هي الإرادة التي حددت الموقف ما بين زوال اليابانيين كما أراد الأمريكان و ما بين عودتهم لينافسوا أمريكا و العالم الرأسمالي في صلب اهتماماتهم الجديدة في التكنولوجيا و التصنيع .
لقد أراد الشعب الياباني أن يعيش فاستجاب القدر و أراد أن يخلد فجعل من المأساة وقودا يذكّر الناس بضرورة المضي قدما حتى لا يعودوا لمرحلة دُفنوا فيها و هم أحياء.
عاد المارد الياباني ليضع اسم اليابان على كل شيء و في كل مكان و ليدخل كل بيت رغما عن أمريكا بالتفوق في الانتاج و العمل، و لو كان لأحد أن يستسلم بعد المأساة الفادحة التي عاشها لكان حري باليابانيين أن يفعلوا و لم يكن أحد ليلومهم، و لكنها الإرادة!
إن الانتصار حالة ذهنية صورية وقلبية شعورية قبل أن يكون عملا واقعا على الأرض، و التخطيط و تربية الناس عليه هو أكثر من نصف الانتصار و تبقى الحلقة الأخيرة و الحسم عند المعركة. إن الإيمان بالنصر يهيئ المرء لتحقيقه و تدريب النفس عليه يؤدي الى ممارسته و محاكاته تؤدي الى تطبيقه.
إن الجنود المهزومين نفسيا مهزومون عسكريا و لو كان بيدهم أقوى الأسلحة و لذلك كان هناك فرع خاص في الحرب اسمه (الحرب النفسية) و لها أسلحة و مضادات تعمل على نفسية الجنود و الشعوب و كسبها أو خسارتها مقدمة لكسب أو خسارة الحروب التقليدية
و عليه فلا يمكن هزيمة شعب يرى نفسه منتصرا على أي الأحوال فالشهادة عنده نصر و أسمى الأمنيات و النصر نصر و التراجع نصر يمهد لكرة أخرى.
لا يمكن هزيمة شعب يستقبل التضحية بالورود و الزغاريد و الأعراس و حتى دموعه تكون عزما على الثأر و مزيدا من التضحيات.
لا يمكن هزيمة شعب يؤمن أن توفيق الله هو أول النصر و أوسطه و منتهاه و مع ذلك يستجيب لأمر الله بأخذ الأسباب في إعداد عدة القوة بالصناعة و الاختراع و التجريب و التطوير.
لا يمكن هزيمة شعب لا يرهبه تفوق العدو المادي و العددي لأنه يعرف أن الغلبة لم تكن يوما للكثرة
كتب الغزالي يوما مقالا بعنوان (كيف تصنع من الليمونة الحامضة شرابا حلوا) و بين فيه أن هذه الفكرة البسيطة في ظاهرها هي ما يقيم أود الحياة و يعطي القدرة للبشر على إدراك العظمة و تخطي المعوقات و اجتراح المعجزات، و اصلاح الخلل و تقوية القاعدة الضعيفة للبناء عليها، و البحث عن الايجابيات في ركام السلبيات، و بث طاقة الأمل التي تقوي البشر و تجعلهم أكثر قدرة على الصبر و الاحتمال.
و بذا لا يمكن أيضا هزيمة شعب يصنع من النصر و التضحيات على ضخامتها و ألمها ثقافة و طريقة حياة ، يعبر عن نقاطها المضيئة جمالياً بكل طرائق الفنون المرئية و المحكية و المحسوسة و يمكن الناس من أن يعيشوا النصر في دقائق حياتهم البسيطة و مأكلهم و مشربهم و قيامهم و قعودهم.
إذا أردنا أن نرى شعبا منتصرا فلننظر كيف يرى نفسه و كيف يقدم نفسه للعالم في ثوب المنتصرين أم خلعة المهزومين، و هل يخاطب نفسه و الناس بلغة العزة أم بلغة الضحية ،و بذا يكون عطر غزة M75 الذي حمل الاسم الميمون لصواريخ القسام التي كانت بالمدى الذي وصلته احد الأسباب المادية للنصر ليس مجرد عطر أو منتج اقتصادي فهو يعبر عن حالة ثقافية و وعي جماعي يرى في المقاومة طريقة حياة ليست مجبولة فقط بالدماء و التضحية و إنما لها جانب إبداعي و رائق و حساس لا يفهمه الا أصحاب البصائر و من تربوا في مدرسة الجهاد و النصر و الشهادة، فالشهداء صفوة الله من خلقه و ما يصنع فكرهم و حياتهم هي ثقافة بهذا الرقي و الإبداع .
عطر غزة M75 هو وجه آخر للمقاومة تبين أن الشعب الذي يمسك بالبندقية يتشبث أيضا بالحياة و يرى الحياة في سبيل الله كالموت في سبيل الله كلاهما جهاد مقدس كما قال الغزالي، و هو مصداق للقول إن من يحرص على الموت توهب له و لمن خلفه الحياة في أبهى صورها بجمال المنظر و الرائحة و عزة الناس.
و العطر في نسخته للرجال ممهور بعبارة (لمن يعشقون النصر) و قد يُهدى للعريس في عرسه و للناجح في حفل تخرجه و لصديق من صديقه و شكرا على معروف و محبة و للناس على اختلاف ظروفهم و مواقعهم و الرسالة للجميع أن الكل، و ليس المجاهدين فقط، مسؤولون عن تحقيق النصر كل بحسب موقعه و قدرته فكما اشتركنا في قطف الثمار فرحا و ابتهاجا و عطرا يجب أن نشترك في غرس البذار إعدادا و مددا.
أما نسخة النساء من العطر فكتب عليها (عطر لا يقاوم) و الرسالة للنساء أنك أيضا شريكة في تحقيق النصر في كل مراحله و ان اختيارك في الرجال يجب ان يكون كاختيار ابنة الرجل الصالح لسيدنا موسى لخلقه و قوته و أمانته و أن رجلا بهذه الصفات لا يُرد.
تليق غزة بعطر النصر وعطر النصر يليق بها فلها تاريخ و حاضر و مستقبل مضمخ بالمسك، كل ما في الأمر أن النصر يجعلها أكثر جمالا.
أما المجاهدون فلهم علياء متفردة حتى في عطورهم قال فيها الشاعر:
عبير الورد لكم و نحن عبيرنا وهج السنابك و الغبار الأطيب
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية