انتفاضة على الفِطرة؟! ... بقلم : صلاح حميدة

الأحد 08 ديسمبر 2013

انتفاضة على الفِطرة؟!

صلاح حميدة

في مثل هذه الأيام من عام 1987م بدأت مُسَنَّنة الانتفاضة الشعبية الفلسطينية بالدوران، كانت ثورة من نوع خاص لا مثيل له على الاطلاق في العالم، حجزت في قواميس اللغات والثورات اسماً لا يزال يتردد حتى اليوم، إنّها " الانتفاضة" حيث خطها الشعب الفلسطيني بدماء وتضحيات الآلاف من أبنائه وبناته.

ثورة على الفطرة، يخرجون بلا توجيه.. يقاتلون بالحجارة.. يغلقون الشوارع بالحجارة والاطارات المشتعلة.. يقاتلون بالممكن.. ويتحصنون بالاشجار والبنايات من الطلقات وقنابل الغاز.. يخيط رجالهم و نساؤهم الأعلام من الملابس، يتقاسمون خبزاً وزيتوناً وحبّة طماطم في لحظة جوع، وتصيح ختيارة إيتوني بالجريح لأضع له "يوداً" مطهراً، تحسبه كجرح بسيط!! ... ألم أقل ثورة على الفطرة.

والد أحدهم يقول:- " ما يهمني أن يكون ولدي معكم مقاوماً للاحتلال، وحتى لو بات خارج المنزل أو تأخّر، فأنا على يقين أنّ ولدي لا يسير في طريق خاطىء"... وتلك الأم التي تحضُّ أبناءها على المشاركة في الانتفاضة، وتقول لهم:- " لقد نذرتكم لله، أُخرجنا من قريتنا، وبمقاومتكم للاحتلال سنعود"... وذلك الأب الذي يذهب بأولاده جميعاً لأحد قيادات الانتفاضة ويقول له:- "خذوهم معكم"!!... نوع جديد من الآباء والأمّهات بدأ يتشكّل في المجتمع الفلسطيني، لا يخاف التضحية ويعتبرها عربوناً للعودة إلى الديار.. طلَّق الخوف وأطلق العنان لمرحلة جديدة من حياة شعب.

ثورة تكتسب خبرتها بالتجربة والممارسة على الأرض، رشق سيارات المستوطنين وسيارات الجيش والعملاء وشرطة الاحتلال بالحجارة، ويتفرّد أبطالها بتسميات لسيارات جيش الاحتلال، فهذه "سحليّة" وهذا "حردون" ... أسماء للتحقير والاستخفاف بمركبات القمع، بعد أن كان ذكر أنّ جيب " الشمارجفول" يثير فزعاً في المنطقة بأسرها.

للمرة الأولى يكتشف جيل " الانتفاضة" أنّه أقوى من جيش قهر جيوشاً عربية فرّت من أمامه ولم تحارب، فشاهده يفر من أمام حجارته؟!... يقاتل بحجر وهو أضعف الإيمان.. " يستهلم هذا الفعل من رشق الحجاج لإبليس خلال الحج"... قاوم الظالم حتى ولو بحجر.

انتفاضة الإقدام والتضحية !!... هل رأيتموه يمسك بزميله في المظاهرة ويتقدمه قائلاً: " الآن دوري لرشق الحجارة" فيتلقى طلقتين في صدره!!... من يفعلها؟... هل رأيتم كيف كان يقول العريس لوالدته:- " انظري للقرية التي بجوارنا خرجوا في مظاهرة، وفي قريتنا لا يوجد شيء" فيذهب للقرية المجاورة ويعود محمولاً شهيداً.

انتفاضة جعلت من الفتيان شباباً وقادة... كبروا فجأة وأصبحوا مقاتلين بالفطرة... يستميت الطفل ليلحق بالفتيان، ويستميت الفتيان ليلحقوا بالشباب، ويدرك كبار السن أنّ شوائب الهزيمة تغسل اليوم بتضحيات أبنائهم وأحفادهم.

هل رأى أحدٌ ذلك " المدفعجي"؟... نعم إنّه "مدفعي الانتفاضة" .. إنّه رجل كبير من نوع فريد... ينسج "مقلاعاً" من صوف الخراف، حيث لا مثيل له بين " المقاليع" المستحدثة من قِبَل الفتيان.. يقول:- " اختاروا لي الحجارة المستديرة وسأريكم كيف أفعل بهؤلاء الجبناء" ويطلق " حِمَمَه " عليهم، فيتركون مظاهرةً من المئات ويلاحقونه بهدف القتل، مطلقين عليه النّار.

شاب وسيم في مقتبل العمر يقارع الاحتلال ليل نهار، وحتى لا يضيع وقته بلا مقاومة، يعود من المدينة إلى بيته في البلدة مشياً ليرشق بالحجارة أي سيارة للمستوطنين يصادفها، وعندما يصل إلى حيث يسكن ينضم لأقرانه في مقاومة الاحتلال، فيلفت حضوره المقاوم نظر الاحتلال، فتغتاله قواتهم وسط المدينة، ويستعرضون بوضعه على " السحلية" في شوارعها، أي ساديّة وعار وجُبن هذا.. ولكنّهما الاحتلال والإجرام توأمان.

"انتفاضة" علَّمَت الجيل الوطنيّة بالممارسة، لم تكن الوطنية مشروعاً استثمارياً، ولا كانت حالة شعاراتية، كان الانتماء للوطن وللانتفاضة له ثمن.. وثمن مؤلم.. كان رفع العلم الفلسطيني يكلّف رافعه حياته، وكانت المشاركة بالمسيرة مجازفةً بحياة، وكانت الحاجة للمال تُقتسم من جيوب المنتفضين، وكان النّاس يتسابقون لرعايتهم وحمايتهم وتحمّل أعباء مقاومتهم.

في ذكرى تلك " الانتفاضة" تحضر ذكرياتها الجميلة والمؤلمة في آن، انتفاضة صاغت حياة جيل كامل كان على وشك الضياع في ثقافة التعايش مع الاحتلال، انتفاضة على الفطرة... انتفاضة من زمن آخر... رحم الله شهداءها، وتحيّة لمن أشعلوا ضياءها ونارها.
جبل يدعى حماس
سأموت ولكن لن ارحل
يا رب انت العالم
يوم تجثو كل أمّــة
علم .. مقاومة .. حرية

الشبكات الاجتماعية

تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية

القائمة البريدية