بقلم رشيد ثابت
كم كنت أود لو أن "التغريبة الفلسطينية" استطاعت أن تقفز فوق الموانع السياسية التي حالت بينها وبين ظهور أجزاء أخرى منها؛ حتى يتسنى لها أن تكمل سرد رواية التاريخ والحاضر الفلسطيني. كنت أتمنى لو رأينا جزءً ثانيًا وثالثًا حتى أسأل الجد "القائد أبو صالح" عن أيهما كان أشد على نفسه وقعًا وألمًا: 5 حزيران 1967 أم 5 حزيران 2009؟
في العام 1967 أكمل الصهاينة احتلال باقي فلسطين وكان هذا أمرًا جارحًا ومهينًا دون أدنى شك؛ لكن كانت قوانيننا الاجتماعية والسياسية لما تنقلب بعد. كان الصهيوني عدوًّا بغيضًا وكانت المقاومة واجبًا بطوليًّا يؤجر فاعله ويأثم تاركه – أو يبقى هذا التارك في منطقة "الأعراف" سياسيًّا واجتماعيًّا إن كان له عذره. أما الآن فقد أضحت الخيانة هي المشروع الوطني لفئة من شعب فلسطين – فئة أمنية نعم مرتبطة بالمحتل مباشرة من خلال أبيها وراعي نهضتها "دايتون"؛ لكن هذه العصابة المسلحة لها جناح سياسي اسمه حركة فتح؛ ولها أيضًا حاضنة جماهيرية هم أنصار هذه الحركة الذين يوفرون الآن بعدًا شعبيًّا للعمالة والخيانة واستهداف المطلوبين. هذه هي الحقيقة الباردة المجردة المحايدة رَضِيَ بذلك رموز الوثنية الفئوية أم سَخِطُوا.
صبيحة 5 حزيران 2009 اكتشفنا أن خلاف فتح الأخير مع فياض كان سحابة صيف؛ وأن من قال أن "الدراهم مراهم" لم يجاوز حدود الإنصاف؛ فعادت الحركة تتصالح مع صاحب الكيس ودماء خمسة من شهداء القسام في قلقيلية لما تجف بعد؛ وعاد وزراء فتح في حكومة فياض الجديدة للتعبد في كعبة قائدهم المنصور بأمريكا؛ وأقسموا يمين تولي المهام تحت راية الزعيم! تخيلوا حجم الوقاحة: يقسمون على كتاب الله بأن يخونوا الله والوطن ويقتلوا أعداء الكيان الصهيوني حماية "للمشروع الوطني"؟!
فتح تصالحت مع فياض واكتشفت أن الخلاف التكتيكي على حجم القطعة من الكعكة الوطنية لا يفسد لاجتماع القوم على حرب حماس قضيةً وتدبيرًا! وإذا كان "القائد أبو صالح" قد أثنى في الحلقة الأخيرة من التغريبة عشية النكسة على "الشباب اللي هاجموا دورية برات البلد" فإن اثنين وأربعين عامًا كانت كفيلة بانقلاب المطبوع وتبدل المعايير؛ فأثنى "متان فلنائي" – نائب وزير الحرب الصهيوني – على قوات فتح وهي تقتل المقاومين وتستهدف المجاهدين من ورثة أبي صالح وصحبه!
في 5 حزيران 2009 وزعت فتح خطبًا "نموذجية" لصلاة الجمعة اعتبرت فيها المقاومة خرقًا للصف الوطني؛ واعتبرت الاجتماع على قتل أبطالها من اجتماع كلمة المؤمنين (بفياض كفيلاً لأرزاقهم) ومن الاعتصام بحبل الله؛ كَبُرَتْ كلمةً تخرجُ من أفواههم إن يقولون إلا كذبا!
وديست الجوامع بالأحذية الدنسة لبساطير الاحتلال من أيتام دايتون؛ ليتسنى لهم نعي هلكى أذناب جيش الدفاع وهم يستهدفون المجاهدين. وأحبت قوات العملاء أن تتوب إلى أسيادها بأثر رجعي؛ ففتشت منزل عائلة الشهيد يحيى عياش وعاثت فيه فسادًا وتخريبًا؛ فكأنها تقصد أن تصل إلى رتبة "الإحسان" و"التبتل" في إرضاء الصهاينة. ومنع هؤلاء الأراذل إقامة مراسم العزاء بشهداء القسام الذين حرصوا على دفنهم سرًّا؛ متجاوزين بذلك حتى السقف الأخلاقي لمشغليهم (وهذه ليست عجيبة فعبد السيد أحرص على إنفاذ رغبات سيده بالتي هي أسوأ إنعكاسًا لخسة همته ووضاعة قدره)
وإذا تركتَ العملاء وأجنحتهم السياسية والإعلامية جانبًا فإنك تحار في طوائف المقتاتين على فضلات المعتاشين على فتات الصهاينة. هؤلاء المنافقون الذين هم أقرب للدايتونية السياسية منهم للمقاومة يعرفون بسيماهم؛ فهم في "فسائل الهَمَل الوطني" حريصون على إدانة "سلاح المقاومة" أو سلاح العميل والمجاهد معًا مع "تفهم" حاجة العميل لضبط الأمن (الصهيوني) وفرض سيادة القانون (الدايتوني). وهم في الإعلام يقومون بدور شاهد الزور الذي يكتم الحق وينشر دعاية الباطل. أما في المراكز الحقوقية فهم حريصون على مسح سمعة هذا اللون من النشاط المدني؛ من خلال كتابة تقارير تقدم رواية المخبرين والعملاء على أنها القول الفصل وبلغة "محايدة"؛ وكل ذلك في قالب لا تتسرب المهنية إليه من بين يديه ولا من خلفه (تقرير مؤسسة "الباطل" على سبيل المثال لا الحصر).
لكن ليفهم هؤلاء جميعًا أن نواميس الكون لا تبطل حتى لو ساعد "الخداع البصري" والتفكير الرغبوي على إيهام بعض الخرقى بأن دولة "الزط" و"القرامطة" إلى قيام الساعة! عاجلاً أو آجلاً فمصيرُ العملاء هو الهزيمة والتعرض للعقوبات المغلظة والعواقب الوخيمة وحلق الكرامة (قرأت اليوم أن أول ما ابتديء به من عقوبة الفرنسيات اللاتي تعاملن مع المحتل النازي قبل قتلهن هو حلق شعر رؤوسهن "على الصفر") وفلسطين التي نعرف بوعد الله أنها ستلفظ الصهاينة سوف تلفظ عملاءها من باب أولى. فقط نطلب ونلح على رعاة المقاومة أن يعدوا العدة لوراثة المشهد وينتظروا اللحظة المناسبة ويغتنموا رياحهم حين تهب؛ خصوصًا أنهم حريصون على تحري أن يكونوا أصحاب الآية " ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" وهم كذلك إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا!
رشيد ثابت – كاتب فلسطيني في السويد
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية