بين بنان الطنطاوي ومريم فرحات
كيف تُطل الذكرى دون أن نتجول في بساتين العطاء، نتنسم عطر الزهر ونتفيأ ظلال الأشجار، ونقطف بعض الثمر درسًا نتخذه منهج حياة، ونستقي من ينابيعها ما يشحن هممنا، ويجدد عزائمنا، ويُقلنا في مراكب الرواحل، نجدد سيرة ونرتحل بقلوبنا المعلقة بعرشٍ دنا منه الشهداء والأخيار، نسرج بدمعنا طريقًا شق علينا فيه الاغتراب وحارت بنا العواطف وألهبتنا المظالم.
إلى حيث ولدتا، وكان الله يعدهما لقدر؛ منه ما عشناه ومنه ما سمعنا عنه وتأثرنا به، ولدت بنان "أم أيمن" في دمشق الفيحاء، عام 1943 لأبيها الشيخ علي الطنطاوي، استقت من معارفه وتتلمذت على يديه، وتثقفت على كتب التراث والأدب، حتى تزوجت في الخامسة عشرة من عمرها عام 1958 من عصام العطار الذي صار فيما بعد المراقب الثاني للإخوان المسلمين في سوريا.
أما مريم "أم نضال" ولدت في الشجاعية في غزة، عام 1949 لأبيها محمد فرحات والذي عمل شرطيًا، عاشت ظروف القصف والاستشهاد ومرحلة ما بعد النكبة بفصولها، وكانت لا تعرف من الدين إلا الصلاة، تزوجت في الثامنة عشرة من عمرها بحدود عام 1967 من فتحي فرحات، أتمت الثانوية العامة وهي حامل بمولودها البكر نضال، وحصلت على 80%، وتأثرت بالدروس الدينية في المسجد فتغيرت حياتها إلى الالتزام.
وقفت بنان بجرأة وعزم تشد من أزر زوجها كلما انتزعه البعثيون معتقلًا، تطمئنه عليها وعلى أبنائهما وتطالبه بأن لا يرِ الأنذال من نفسه إلى قوة واستعلاء على الباطل، واختارت أن تمضي معه في غربته بعد أن منعوه من العودة إلى سوريا، هناك في ألمانيا حيث تكمل رسالتها، رسالة الدعوة، ورسالة الثبات على دين الله، فأنشأت المركز الإسلامي النسائي للمسلمات في مدينة آخن.
في هذا الوقت، كانت مريم تخوض حرب الالتزام بالحجاب في ظل رفض زوجها ومن حولها، وقد هُددت بالطلاق ولكنها أصرت على موقفها، وأخذت تربيتها لأبنائها تنحى منحىً دينيًا.
كل من بنان ومريم عاشتا في ظل فهم خاص للإسلام، فبنان بكّاءة إذا ما قرآنها تلت، ومريم داعية بفهمها وبما عايشته من هموم ساوتها بمن حولها، وكلتاهما ترجمتا الانتماء للإسلام وعيًا وعملًا ينبئ عن فهم مختلف للمقام الذي أقامهما الله فيه.
بنان الزوجة الصابرة؛ وهي التي كتبت لزوجها: (نحن لا نحتاج منك لأي شيء خاص بنا، ولا نطالبك إلا بالموقف السليم الكريم الذي يرضي الله عز وجل، وبمتابعة جهادك الخالص في سبيل الله حيثما كنت وعلى أي حال كنت، والله معك يا عصام، وما يكتبه الله لنا هو الخير)، وحين مرض قالت له:
(لا تحزن يا عصام، إنك إن عجزت عن السير سرت بأقدامنا، وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا، تابع طريقك الإسلامي المستقل المميز الذي شكلته وآمنت به، فنحن معك على الدوام، نأكل معك - إن اضطررنا- الخبز اليابس، وننام معك تحت خيمة من الخيام ).
فترجمت الجهاد عملًا بعد قول بليغ وراءه قلب مخلص صادق لم يتردد ولم يتبدل حتى لقيت الله عز وجل شهيدة في اغتيال أُريدَ منه القضاء على زوجها؛ ظنًا أنهم بهذا يفقدونه القدرة على الحركة والعمل.
أما أم نضال فهي التي واصلت الدرب، وآوت المطاردين ومنهم عماد عقل، وشدت من أزر المجاهدين، ورافقت ابنها محمد استشهاديًا تنتظر زغاريد رصاصه، وودعت نضال ورواد وزوج ابنتها شهداء، وقُصف بيتها أربع مرات، وأصيب مؤمن وفقد حسام أصابعه في غارة، وقضى وسام أكثر من 11 في سجون الاحتلال؛ فما جزعت وما تراجعت، وصبرت واحتسبت وشكرت ورضيت، وهي التي قالت: (من كانت تحب ولدها فلتعطه أغلى ما تستطيع، وأغلى ما يمكن الجنة، ولا تجزع عند فوزه بها، ولا تشمت الأعداء بشعبنا بدموعها على شاشات التلفزة).
وهي التي خاضت غمار العمل النيابي كفخر جهادي تتمم به رسالتها في كل المجالات، فمثلت امتداد فكر حماس وهي تؤكد على مشروع المقاومة وعلى تحرير فلسطين كاملة.
رحلت أم نضال وقد كتب الله لها ذكرًا وقبولًا، وقدر لها أثرًا بِسَمْتها الطاهر، وعطائها اللامحدود، وثباتها الراسخ، فحمل نعشها قادة حماس، وسار في تشييعها رجال القسام، برّت بفكرتها فبروا بها.
بنان ومريم جمعتا إلى قوة الإيمان وحسن الخُلق؛ فهمًا وجهادًا ورباطًا، فرفع الله بهما راية الحق في الميادين التي شهدتهما، وقامت كل منهما بواجبها كداعية وأُم ومربية ومجاهدة.
أما بعد؛
فإن ثقافة الإنسان لا تقاس بالشهادات والألقاب التي تُخلع عليه؛ ولكن بعظم الغراس التي تثمر بعد حين، بالذكر الذي يعلو، والأثر الذي يتجلى جيلًا بعد جيل، وبين قلم بنان وسلاح مريم كثير يُقال ويُقرأ ويُرجى.
بنان الطنطاوي: 21/05/1943 - 17/03/1981
مريم فرحات: 24/12/1949 - 17/03/2013
إسراء خضر لافي
كيف تُطل الذكرى دون أن نتجول في بساتين العطاء، نتنسم عطر الزهر ونتفيأ ظلال الأشجار، ونقطف بعض الثمر درسًا نتخذه منهج حياة، ونستقي من ينابيعها ما يشحن هممنا، ويجدد عزائمنا، ويُقلنا في مراكب الرواحل، نجدد سيرة ونرتحل بقلوبنا المعلقة بعرشٍ دنا منه الشهداء والأخيار، نسرج بدمعنا طريقًا شق علينا فيه الاغتراب وحارت بنا العواطف وألهبتنا المظالم.
إلى حيث ولدتا، وكان الله يعدهما لقدر؛ منه ما عشناه ومنه ما سمعنا عنه وتأثرنا به، ولدت بنان "أم أيمن" في دمشق الفيحاء، عام 1943 لأبيها الشيخ علي الطنطاوي، استقت من معارفه وتتلمذت على يديه، وتثقفت على كتب التراث والأدب، حتى تزوجت في الخامسة عشرة من عمرها عام 1958 من عصام العطار الذي صار فيما بعد المراقب الثاني للإخوان المسلمين في سوريا.
أما مريم "أم نضال" ولدت في الشجاعية في غزة، عام 1949 لأبيها محمد فرحات والذي عمل شرطيًا، عاشت ظروف القصف والاستشهاد ومرحلة ما بعد النكبة بفصولها، وكانت لا تعرف من الدين إلا الصلاة، تزوجت في الثامنة عشرة من عمرها بحدود عام 1967 من فتحي فرحات، أتمت الثانوية العامة وهي حامل بمولودها البكر نضال، وحصلت على 80%، وتأثرت بالدروس الدينية في المسجد فتغيرت حياتها إلى الالتزام.
وقفت بنان بجرأة وعزم تشد من أزر زوجها كلما انتزعه البعثيون معتقلًا، تطمئنه عليها وعلى أبنائهما وتطالبه بأن لا يرِ الأنذال من نفسه إلى قوة واستعلاء على الباطل، واختارت أن تمضي معه في غربته بعد أن منعوه من العودة إلى سوريا، هناك في ألمانيا حيث تكمل رسالتها، رسالة الدعوة، ورسالة الثبات على دين الله، فأنشأت المركز الإسلامي النسائي للمسلمات في مدينة آخن.
في هذا الوقت، كانت مريم تخوض حرب الالتزام بالحجاب في ظل رفض زوجها ومن حولها، وقد هُددت بالطلاق ولكنها أصرت على موقفها، وأخذت تربيتها لأبنائها تنحى منحىً دينيًا.
كل من بنان ومريم عاشتا في ظل فهم خاص للإسلام، فبنان بكّاءة إذا ما قرآنها تلت، ومريم داعية بفهمها وبما عايشته من هموم ساوتها بمن حولها، وكلتاهما ترجمتا الانتماء للإسلام وعيًا وعملًا ينبئ عن فهم مختلف للمقام الذي أقامهما الله فيه.
بنان الزوجة الصابرة؛ وهي التي كتبت لزوجها: (نحن لا نحتاج منك لأي شيء خاص بنا، ولا نطالبك إلا بالموقف السليم الكريم الذي يرضي الله عز وجل، وبمتابعة جهادك الخالص في سبيل الله حيثما كنت وعلى أي حال كنت، والله معك يا عصام، وما يكتبه الله لنا هو الخير)، وحين مرض قالت له:
(لا تحزن يا عصام، إنك إن عجزت عن السير سرت بأقدامنا، وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا، تابع طريقك الإسلامي المستقل المميز الذي شكلته وآمنت به، فنحن معك على الدوام، نأكل معك - إن اضطررنا- الخبز اليابس، وننام معك تحت خيمة من الخيام ).
فترجمت الجهاد عملًا بعد قول بليغ وراءه قلب مخلص صادق لم يتردد ولم يتبدل حتى لقيت الله عز وجل شهيدة في اغتيال أُريدَ منه القضاء على زوجها؛ ظنًا أنهم بهذا يفقدونه القدرة على الحركة والعمل.
أما أم نضال فهي التي واصلت الدرب، وآوت المطاردين ومنهم عماد عقل، وشدت من أزر المجاهدين، ورافقت ابنها محمد استشهاديًا تنتظر زغاريد رصاصه، وودعت نضال ورواد وزوج ابنتها شهداء، وقُصف بيتها أربع مرات، وأصيب مؤمن وفقد حسام أصابعه في غارة، وقضى وسام أكثر من 11 في سجون الاحتلال؛ فما جزعت وما تراجعت، وصبرت واحتسبت وشكرت ورضيت، وهي التي قالت: (من كانت تحب ولدها فلتعطه أغلى ما تستطيع، وأغلى ما يمكن الجنة، ولا تجزع عند فوزه بها، ولا تشمت الأعداء بشعبنا بدموعها على شاشات التلفزة).
وهي التي خاضت غمار العمل النيابي كفخر جهادي تتمم به رسالتها في كل المجالات، فمثلت امتداد فكر حماس وهي تؤكد على مشروع المقاومة وعلى تحرير فلسطين كاملة.
رحلت أم نضال وقد كتب الله لها ذكرًا وقبولًا، وقدر لها أثرًا بِسَمْتها الطاهر، وعطائها اللامحدود، وثباتها الراسخ، فحمل نعشها قادة حماس، وسار في تشييعها رجال القسام، برّت بفكرتها فبروا بها.
بنان ومريم جمعتا إلى قوة الإيمان وحسن الخُلق؛ فهمًا وجهادًا ورباطًا، فرفع الله بهما راية الحق في الميادين التي شهدتهما، وقامت كل منهما بواجبها كداعية وأُم ومربية ومجاهدة.
أما بعد؛
فإن ثقافة الإنسان لا تقاس بالشهادات والألقاب التي تُخلع عليه؛ ولكن بعظم الغراس التي تثمر بعد حين، بالذكر الذي يعلو، والأثر الذي يتجلى جيلًا بعد جيل، وبين قلم بنان وسلاح مريم كثير يُقال ويُقرأ ويُرجى.
بنان الطنطاوي: 21/05/1943 - 17/03/1981
مريم فرحات: 24/12/1949 - 17/03/2013
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية