حديث البطولة وحديث الفكر
أحمد أبو رتيمة
يركز حديث البطولة على إبراز تضحيات الشعوب، وعلى تحويل القادة إلى أبطال أسطوريين خالدين لم يجد الزمان بمثلهم، ويبرز إنجازاتهم فوق العادية، وملكاتهم التي تكاد تخرجهم من دائرة البشرية إلى دائرة الألوهية، وكيف انتصروا رغم شح الإمكانيات وصعوبة التحديات.
حديث البطولة لا يخاطب العقل إنما العاطفة والوجدان، ويرمي إلى تعبئة النفوس بروح ثورية تطلق أصحابها نحو التضحية والفداء، طبيعة أحاديث البطولة تقتضي إبراز المناقب والفضائل للذات الوطنية أو القومية أو الدينية، وإحاطة الأبطال بهالة من القداسة، وفي الوقت نفسه تميل إلى شطب السلبيات والتغاضي عنها؛ لأن الحديث فيها قد يخدش الصورة الجميلة.
حديث البطولة تلجأ إليه الشعوب في مراحل الاستضعاف؛ لأنه يمنحها أجواءً من العاطفة الدافئة ويعزز مشاعر التضامن بين الناس؛ فهو حديث عاطفي دافئ لا يعكره جفاف الفكر ولا ينغصه مراجعة النفس وإدانتها، أما حديث الفكر فهو حديث يفتقد دفء البطولة وحرارة العاطفة، يعتمد على نزع الهالات والأردية الجميلة، ويهدم أصنام البطولة، ويواجه الحقيقة السافرة حتى لو كانت مزعجة.
حديث البطولة أحب إلى نفوسنا، إلا أنه يشتمل على مخاطر جسيمة؛ لأن الأمم لا يمكن أن تبني حضارات وتنهض بالبطولة وحدها، بل لابد من أسئلة مزعجة وطرح قضايا شائكة للمعالجة ومواجهتها بشجاعة، مهما تسببت في الإزعاج، والدول المتحضرة اليوم قد هدمت كل الأصنام البشرية، ولم يعد أحد في الدولة خارج دائرة المساءلة مهما علا منصبه.
خطورة البطولة تنبع من أنها تميل إلى حذف الأخطاء والتستر عليها؛ بحجة أن تظل الصورة ناصعة البياض، لكن هذا التستر من شأنه أن يفاقم هذه الأخطاء وأن يحرمنا فرصة معالجتها.
شطب أخطاء القادة وتقديمهم إلى الناس على أنهم كتلة من الحسنات وحسب سيحول هذه الزعامات إلى أصنام وتماثيل يحرم الاقتراب منها بالنقد، وبذلك سيغيب صوت العقل والفكر.
ينحاز القرآن بطبيعته إلى المنهج الفكري، وهو لا يكرس البطولات الأسطورية، حسب تعبير المفكر علي عزت بيجوفتش، وإذا كان الذين يحيطون أبطالهم بهالات من القداسة يتذرعون بأن هؤلاء الأبطال سيكونون ملهمين للأجيال، لذا ليس من الحكمة التركيز على مواطن ضعفهم وأخطائهم؛ فإننا نجد أن القرآن لم يخلق دوائر حمراء ومناطق محرمة في سيرة محمد المثل الأعلى للبشرية إلى يوم الدين، بل إن القرآن يعرض لنا سيرته بكل دقائقها، وما فيها من عواطف بشرية: "وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه"، "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك"، "عفا الله عنك لم أذنت لهم"، "عبس وتولى أن جاءه الأعمى"، ويعالج أيضًا أخطاء الصحابة "منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة"، "إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم"، "قل هو من عند أنفسكم"، كل هذه الآيات تتعارض مع حديث البطولة الذي نبرر به التغافل عن أخطائنا، وإغلاق الأبواب أمام أي نقاش فكري جاد يقوّم تجربتنا بما لها وما عليها، دون أي تحفظ بحجة الحفاظ على الصورة النقية، وعلى المثال الذي يحتذي به الناس.
يقول المفكر السعودي إبراهيم البليهي: "إن إخفاء أخطاء العظماء، وادعاء كمال الأبطال، وتوهم الصواب المطلق عند الذين نجلهم؛ هي سلوكيات لم تعد مقبولة لأنها نوع من الصنمية التي لا تتلاءم مع الخصائص البشرية, فهذا اللون من التفكير يصيب العقول بالعطب ويلحق الضرر الفادح بالحقيقة".
البطولة ما هي إلا مقدمة للصنمية والوثنية وموت العقل، وما ينقص الأمة اليوم هو النقاش الفكري الجاد أكثر مما تنقصها البطولة .
أحمد أبو رتيمة
يركز حديث البطولة على إبراز تضحيات الشعوب، وعلى تحويل القادة إلى أبطال أسطوريين خالدين لم يجد الزمان بمثلهم، ويبرز إنجازاتهم فوق العادية، وملكاتهم التي تكاد تخرجهم من دائرة البشرية إلى دائرة الألوهية، وكيف انتصروا رغم شح الإمكانيات وصعوبة التحديات.
حديث البطولة لا يخاطب العقل إنما العاطفة والوجدان، ويرمي إلى تعبئة النفوس بروح ثورية تطلق أصحابها نحو التضحية والفداء، طبيعة أحاديث البطولة تقتضي إبراز المناقب والفضائل للذات الوطنية أو القومية أو الدينية، وإحاطة الأبطال بهالة من القداسة، وفي الوقت نفسه تميل إلى شطب السلبيات والتغاضي عنها؛ لأن الحديث فيها قد يخدش الصورة الجميلة.
حديث البطولة تلجأ إليه الشعوب في مراحل الاستضعاف؛ لأنه يمنحها أجواءً من العاطفة الدافئة ويعزز مشاعر التضامن بين الناس؛ فهو حديث عاطفي دافئ لا يعكره جفاف الفكر ولا ينغصه مراجعة النفس وإدانتها، أما حديث الفكر فهو حديث يفتقد دفء البطولة وحرارة العاطفة، يعتمد على نزع الهالات والأردية الجميلة، ويهدم أصنام البطولة، ويواجه الحقيقة السافرة حتى لو كانت مزعجة.
حديث البطولة أحب إلى نفوسنا، إلا أنه يشتمل على مخاطر جسيمة؛ لأن الأمم لا يمكن أن تبني حضارات وتنهض بالبطولة وحدها، بل لابد من أسئلة مزعجة وطرح قضايا شائكة للمعالجة ومواجهتها بشجاعة، مهما تسببت في الإزعاج، والدول المتحضرة اليوم قد هدمت كل الأصنام البشرية، ولم يعد أحد في الدولة خارج دائرة المساءلة مهما علا منصبه.
خطورة البطولة تنبع من أنها تميل إلى حذف الأخطاء والتستر عليها؛ بحجة أن تظل الصورة ناصعة البياض، لكن هذا التستر من شأنه أن يفاقم هذه الأخطاء وأن يحرمنا فرصة معالجتها.
شطب أخطاء القادة وتقديمهم إلى الناس على أنهم كتلة من الحسنات وحسب سيحول هذه الزعامات إلى أصنام وتماثيل يحرم الاقتراب منها بالنقد، وبذلك سيغيب صوت العقل والفكر.
ينحاز القرآن بطبيعته إلى المنهج الفكري، وهو لا يكرس البطولات الأسطورية، حسب تعبير المفكر علي عزت بيجوفتش، وإذا كان الذين يحيطون أبطالهم بهالات من القداسة يتذرعون بأن هؤلاء الأبطال سيكونون ملهمين للأجيال، لذا ليس من الحكمة التركيز على مواطن ضعفهم وأخطائهم؛ فإننا نجد أن القرآن لم يخلق دوائر حمراء ومناطق محرمة في سيرة محمد المثل الأعلى للبشرية إلى يوم الدين، بل إن القرآن يعرض لنا سيرته بكل دقائقها، وما فيها من عواطف بشرية: "وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه"، "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك"، "عفا الله عنك لم أذنت لهم"، "عبس وتولى أن جاءه الأعمى"، ويعالج أيضًا أخطاء الصحابة "منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة"، "إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم"، "قل هو من عند أنفسكم"، كل هذه الآيات تتعارض مع حديث البطولة الذي نبرر به التغافل عن أخطائنا، وإغلاق الأبواب أمام أي نقاش فكري جاد يقوّم تجربتنا بما لها وما عليها، دون أي تحفظ بحجة الحفاظ على الصورة النقية، وعلى المثال الذي يحتذي به الناس.
يقول المفكر السعودي إبراهيم البليهي: "إن إخفاء أخطاء العظماء، وادعاء كمال الأبطال، وتوهم الصواب المطلق عند الذين نجلهم؛ هي سلوكيات لم تعد مقبولة لأنها نوع من الصنمية التي لا تتلاءم مع الخصائص البشرية, فهذا اللون من التفكير يصيب العقول بالعطب ويلحق الضرر الفادح بالحقيقة".
البطولة ما هي إلا مقدمة للصنمية والوثنية وموت العقل، وما ينقص الأمة اليوم هو النقاش الفكري الجاد أكثر مما تنقصها البطولة .
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية