حكومات فلسطينية لا تحكم
د. عبد الستار قاسم
ما أن أُعلن عن تعيين رئيس وزراء جديد للسلطة الفلسطينية حتى هبت وسائل الإعلام المختلفة تبحث عن شخصية رئيس الوزراء الجديد، وما يمكن أن يتبنى من سياسات، وفيما إذا كانت سياساته ستختلف عن سياسات سلفه، وتأثير الجديد على وضع السلطة الفلسطينية وما تجبيه من أموال، وقدرتها على دفع رواتب الموظفين بصورة منتظمة. وكثيرا ما اتسمت أسئلة الإعلاميين بالسذاجة والسطحية وكأنهم لا يعرفون الواقع الفلسطيني ولم يخبروه بتاتا. كان من المفروض أن تبدأ أسئلتهم من حيث ما أيقنوه عبر السنوات، لكنهم أصروا ويصرون على أن تبقى أسئلتهم ذات إجابات هم يتوقعونها.
تختلف الشخصيات، ويختلف الناس في أدائهم وأفكارهم باختلاف شخصياتهم، ولكل شخصية بصماتها في المحيط الذي تتواجد فيه. وعادة من المتوقع أن يختلف أداء رئيس عن أداء آخر على الرغم من أن الاثنين يلتزمان بذات الدستور وذات القوانين، ولا نستطيع القول إن شخصية ستكون نسخة عن شخصية أخرى، بل إن أساليب ووسائل كل منهما ستكون متطابقة. لكننا لا نتوقع اختلافا واسعا في إدارة الأمور بخاصة عندما تكون المرجعيات الأخلاقية والقانونية والدستورية واحدة. لكن هذا لا ينطبق كثيرا على السلطة الفلسطينية ومختلف أجهزتها لأن العنصر الخارجي يملك اليد الطولى في تحديد السلوك السياسي للاعبين السياسيين على الساحة في الضفة الغربية.
بين الاتفاق مع إسرائيل والقانون الأساسي
السؤال المطروح دائما: أيهما السيد القانون الأسسي الفلسطيني أم الاتفاقيات مع إسرائيل؟ إذا تعارض القانون الفلسطيني مع بنود الاتفاقيات مع إسرائيل، أيهما سيكون نافذا؟ السيادة هي للاتفاقيات مع إسرائيل بخاصة عندما يتعلق الأمر بأمن إسرائيل. حصل أن فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، لكن سلطة رئيس السلطة انقلبت على النتائج لأن إمساك حماس بزمام الأمور يتخطى الاتفاقيات ويؤكد على الاستقلالية الفلسطينية. وقد وجد رئيس السلطة الفلسطينية تأييدا من قبل إسرائيل وأمريكا، وقررت الدولتان الإفراج عن أموال الضرائب والدعم لكي تتمكن السلطة من دفع رواتب الموظفين. وكمثال آخر، تتطلب الأوضاع الآن إطلاق يد الشباب الفلسطيني لمواجهة المستوطنين الذين يمعنون بالاعتداءات على الشعب وذلك بموجب قاعدة الدفاع عن النفس، لكن السلطة الفلسطينية تلاحق كل من يلقي حجرا على مستوطن لأن الاتفاقيات تلزم السلطة بملاحقة الإرهاب والإرهابيين الفلسطينيين. وكمثال آخر، ينص القانون الأساسي على أن الحكومة لا تكتسب شرعية إلا من خلال ثقة المجلس التشريعي الفلسطيني، لكن بنود الاتفاقيات تتناقض معه لأن المجلس التشريعي حمساوي، وحماس لا تحترم اتفاق أوسلو أو اتفاق باريس.
واضح من ممارسات السلطة الفلسطينية منذ أن أنشئت أن السيادة للاتفاقيات مع إسرائيل وليس للقانون الأساسي الفلسطيني، أي أن السيادة لحراس الاتفاقيات وهم إسرائيل ومن حالفها وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية. وقد عزز هؤلاء الحراس هيمنتهم من خلال المال الذي يمسكون به، فيمنعونه أو ينفقونه وفق إرادتهم هم. وما دامت السلطة ومعها جمهور غفير من جماهير الأرض المحتلة/67 يدركون قبضة إسرائيل وأمريكا على المال، فإن التخلي عن الإرادة السياسية أمر مقبول فلسطينيا ومبرر.
من يحكم الضفة الغربية
من الناحية الفعلية، الحكم في الضفة الغربية ليس للفلسطينيين على الرغم من أنهم يظهرون على وسائل الإعلام ويتحدثون عن القرار الوطني الفلسطيني المستقل، وإنما القرار بيد إسرائيل وأمريكا ويعمل على تنفيذه القنصل الأمريكي في القدس المعروف بالمندوب السامي الأمريكي، والمنسق الأمني الأمريكي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية ومؤسسة ال USAID. هناك مظلة إسرائيلية أمريكية تراقب وتوجه وتخطط وتأمر، وعلى الفلسطينيين التنفيذ ضمن الحيز المعطى لهم. وإسرائيل تتدخل إذا عجز هذا الثلاثي الأمريكي عن القيام بالواجب.
الحيز المعطى للفلسطينيين محصور بمساحة المظلة، وبإمكانهم أن يلعبوا تحت المظلة وليس فوقها أو خارجها، والعقاب يطالهم إذا لم يلتزموا من خلال منع الأموال وعقوبات أخرى يمكن أن يستعملها الإسرائيليون والأمريكيون وقت الضرورة مثل منع المسؤول من التنقل. بإمكان الفلسطينيين أن يتصارعوا ويقتتلوا، وبإمكانهم أن يفسدوا، وأن يسرق بعضهم أموال بعض، وأن يتزاحموا على المناصب والمنح والعطايا، لكنه ليس بإمكانهم التوقف عن التنسيق الأمني والإداري مع إسرائيل. عليهم الوفاء بالتزاماتهم تجاه إسرائيل، ولهم أن يصنعوا بأنفسهم بعد ذلك ما يشاؤون.
المعنى أن الضفة الغربية ليست بحاجة لا إلى رئيس سلطة ولا إلى رئاسة وزراء، ولا إلى كل هذه التسميات التي لا تعبر عن حقيقة الأمر. هذه تسميات أو مسميات ليست في مكانها وتصنع أوهاما لدى العديد من الفلسطينيين بأنهم أصحاب استقلال وقرار. ومن ظن أن هناك رئيس وزراء أو رئيس سلطة لا يجد وقتا من زحمة العمل فهو واهم.
الصراع ضد فياض
لم يكن الصراع ضد فياض من أجل فلسطين، ولم تكن هناك قضايا فلسطينية جادة مطروحة من أجل التخلص منه كرئيس للوزراء مثل التخلي عن اتفاق أوسلو، أو تخصيص ميزانية واسعة للتنمية الزراعية، أو التوقف عن التنسيق الأمني مع إسرائيل، أو تقديم حق العودة على مسألة إقامة دولة، وإنما تمحورت القضايا حول أبعاد شخصية تتلخص بالأموال والمناصب. هناك من أحسوا أنهم خارج لعبة الوجاهة والمنصب، وأن نصيبهم من المال قد تقلص أو تبخر، فقرروا أن يتهموا فياض بالخيانة. اتهموه أنه رجل أمريكا على الرغم من أنهم يطبعون مع إسرائيل ويساعدونها أمنيا وإداريا، ويعترفون بها قانونيا، ويرجون اللقاء مع القنصل الأمريكي. لقد كانت المنابزات أشبه ما تكون بصراع على الخيانة وليس من أجل الوطن.
فهل سيخرج الفلسطينيون من تحت المظلة الأمريكية الإسرائيلية بعد غياب فياض؟ طبعا لا لأن رئيس السلطة الفلسطينية لا يستطيع تعيين رئيس وزراء لا تتوفر فيه المعايير الخارجية، أو يسعى إلى التمرد على الوضع القائم وعدم المحافظة على الالتزامات الفلسطينية تجاه إسرائيل أمنيا وإداريا. وإذا كان لرئيس السلطة أن يفعل ذلك، فإن أدوات إسرائيل وأمريكا في تغيير الأوضاع متعددة، والدولتان متحكمتان تماما في رقاب الفلسطينيين من عدة زوايا. تتحكم الدولتان بالمال، وتمتلكان العديد من الجواسيس والعملاء الذين وصلوا سدة التأثير في القرار أو اتخاذه، وبإمكانهما القيام بإحراءات كثيرة للمضايقة والإركاع، وغير ذلك.
وعله فإنه ليس من المتوقع أن يختلف رئيس وزراء فلسطيني في الضفة الغربية عن آخر. يجب أن تتوفر في كل رئيس وزراء صفات وميزات معينة تدفعه للالتزام بالمتطلبات الإسرائيلية والأمريكية والتي تتناقض تماما مع الحقوق الوطنية الفلسطينية. فسواء كان رئيس وزراء السلطة أحمد أو سعيد أو علي او ممدوح لن يتغير على الفلسطينيين شيء في السياسة العامة أو الخارجية.
الوضع الاقتصادي
هناك من يقول إن رئيس الوزراء يملك القدرة على وضع سياسة اقتصادية تحل المشاكل الاقتصادية والمالية التي يعاني منها الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، وإن رئيس الوزراء الجديد سيعالج هذه المشاكل التي عجز عنها فياض. هذا قول صحيح لو كان للضفة اقتصاد خاص بها، أو لو أصر الفلسطينيون منذ البدء على إقامة اقتصاد خاص بهم. إسرائيل وأمريكا تتحكمان بالاقتصاد الفلسطيني، وهما لا يمكن أن يسمحا باقتصاد فلسطيني خاص لأن ذلك قد يؤدي إلى اعتماد الفلسطينيين على أنفسهم اقتصاديا وماليا. الاعتماد على الذات يشكل خطورة على إسرائيل وعلى السياسة الأمريكية لما ينطوي عليه من تطوير إرادة سياسية حرة، وما يمكن أن يتبعها من تمرد على تنفيذ الالتزامات الفلسطينية تجاه إسرائيل. سياسة إسرائيل وأمريكيا الاقتصادية تقول بأنه يجب إبقاء الفلسطينيين تحت التبعية الاقتصادية ليبقى حبل المشنقة الاقتصادية ملفوفا حول رقابهم.
رئيس الوزراء السابق لم يرفع الضرائب مثلا لأنه أراد الإثقال على الناس، لكن ذلك كان مطلوبا أمريكيا لفحص إرادة الناس على دفع الضرائب ورد فعلهم على ذلك. ولذلك لم يتوان نتن ياهو وأوباما في تقديم الدعم المالي السريع للسلطة عندما اشتدت الاحتجاجات في الضفة. إسرائيل وأمريكا تحتاجان السلطة الفلسطينية الآن ولن يسمحا بانهيارها.
يفضل الأمريكيون والإسرائيليون زيادة مساهمة الفلسطينيين بميزانيتهم، لكن ليس إلى الحد الذي يهدد وجود السلطة واستمرارها. وهذه القاعدة تنطبق على سياستهما تجاه رئيس الوزراء الجديد. لا يوجد اقتصاد فلسطيني مزدهر لكي تزدهر معه جباية الضرائب، والأمريكيون والإسرائيليون لن يسمحوا بتنمية اقتصادية فلسطينية مستقلة، وعلى الفلسطينيين أن يتوقعوا بقاءهم تحت التهديد باستمرار، ولن ينجيهم من هذا إلا قراراهم بالتمرد على الاتفاقيات مع إسرائيل.
الهروب من الحقيقة
الحقيقة الماثلة في الضفة الغربية تقول إن الفلسطينيين ليسوا أصحاب قرار، وأن الأمريكيين والإسرائيليين هم في النهاية الذين يقررون. هناك هامش ثانوي وضئيل أمام الفلسطينيين لاتخاذ قرارات وهو متعلق ببعض العلاقات الداخلية الثانوية والمنافسات والإمعان في الفساد والمناكفات التي تستنزف الطاقات، لكنهم لا يستطيعون القفز عن إرادة الغير فيما يتعلق بمسائل تتعلق بإسرائيل. فمثلا لا يستطيع الفلسطينيون فتح شارع جديد داخل مدينة إذا اعترضت عليه إسرائيل، ولا يستطيعون حفر بئر ماء داخل مدينة إلا بإذن من إسرائيل. يسمح الإسرائليون أحيانا للسلطة بتصرف يقيم لها شأنا أو هيبة، لكن هذا السماح موسمي ولا يشكل ظاهرة.
ولهذا ما هو متوقع الآن على الساحة الفلسطينية مع رئاسة الوزراء الجديدة يتعلق بصورة كبيرة بإعادة ترتيب مراكز القوى داخل السلطة الفلسطينية بحيث يخسر بعض المتنفذين السابقين بعض مواقعهم وحظوظهم المالية والترفيهية لصالح آخرين ممن كانوا بعيدين عن الحلقة السياسية الأولى. وسيبقى الخاسرون والرابحون تحت المظلة الخارجية على الرغم من إطلاقهم للشعارات الوطنية الساخنة بين الحين والآخر.
والحقيقة المرة التي يحاول قادة السلطة الفلسطينية الهروب منها تتعلق بأزمة الشرعية. أين هي الشرعية الفلسطينية إذا كان رئيس السلطة يلعب في الوقت الضائع، وكذلك المجلس التشريعي ومجالس منظمة التحرير، ورئاسة الوزراء بدون ثقة المشرع؟
د. عبد الستار قاسم
ما أن أُعلن عن تعيين رئيس وزراء جديد للسلطة الفلسطينية حتى هبت وسائل الإعلام المختلفة تبحث عن شخصية رئيس الوزراء الجديد، وما يمكن أن يتبنى من سياسات، وفيما إذا كانت سياساته ستختلف عن سياسات سلفه، وتأثير الجديد على وضع السلطة الفلسطينية وما تجبيه من أموال، وقدرتها على دفع رواتب الموظفين بصورة منتظمة. وكثيرا ما اتسمت أسئلة الإعلاميين بالسذاجة والسطحية وكأنهم لا يعرفون الواقع الفلسطيني ولم يخبروه بتاتا. كان من المفروض أن تبدأ أسئلتهم من حيث ما أيقنوه عبر السنوات، لكنهم أصروا ويصرون على أن تبقى أسئلتهم ذات إجابات هم يتوقعونها.
تختلف الشخصيات، ويختلف الناس في أدائهم وأفكارهم باختلاف شخصياتهم، ولكل شخصية بصماتها في المحيط الذي تتواجد فيه. وعادة من المتوقع أن يختلف أداء رئيس عن أداء آخر على الرغم من أن الاثنين يلتزمان بذات الدستور وذات القوانين، ولا نستطيع القول إن شخصية ستكون نسخة عن شخصية أخرى، بل إن أساليب ووسائل كل منهما ستكون متطابقة. لكننا لا نتوقع اختلافا واسعا في إدارة الأمور بخاصة عندما تكون المرجعيات الأخلاقية والقانونية والدستورية واحدة. لكن هذا لا ينطبق كثيرا على السلطة الفلسطينية ومختلف أجهزتها لأن العنصر الخارجي يملك اليد الطولى في تحديد السلوك السياسي للاعبين السياسيين على الساحة في الضفة الغربية.
بين الاتفاق مع إسرائيل والقانون الأساسي
السؤال المطروح دائما: أيهما السيد القانون الأسسي الفلسطيني أم الاتفاقيات مع إسرائيل؟ إذا تعارض القانون الفلسطيني مع بنود الاتفاقيات مع إسرائيل، أيهما سيكون نافذا؟ السيادة هي للاتفاقيات مع إسرائيل بخاصة عندما يتعلق الأمر بأمن إسرائيل. حصل أن فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، لكن سلطة رئيس السلطة انقلبت على النتائج لأن إمساك حماس بزمام الأمور يتخطى الاتفاقيات ويؤكد على الاستقلالية الفلسطينية. وقد وجد رئيس السلطة الفلسطينية تأييدا من قبل إسرائيل وأمريكا، وقررت الدولتان الإفراج عن أموال الضرائب والدعم لكي تتمكن السلطة من دفع رواتب الموظفين. وكمثال آخر، تتطلب الأوضاع الآن إطلاق يد الشباب الفلسطيني لمواجهة المستوطنين الذين يمعنون بالاعتداءات على الشعب وذلك بموجب قاعدة الدفاع عن النفس، لكن السلطة الفلسطينية تلاحق كل من يلقي حجرا على مستوطن لأن الاتفاقيات تلزم السلطة بملاحقة الإرهاب والإرهابيين الفلسطينيين. وكمثال آخر، ينص القانون الأساسي على أن الحكومة لا تكتسب شرعية إلا من خلال ثقة المجلس التشريعي الفلسطيني، لكن بنود الاتفاقيات تتناقض معه لأن المجلس التشريعي حمساوي، وحماس لا تحترم اتفاق أوسلو أو اتفاق باريس.
واضح من ممارسات السلطة الفلسطينية منذ أن أنشئت أن السيادة للاتفاقيات مع إسرائيل وليس للقانون الأساسي الفلسطيني، أي أن السيادة لحراس الاتفاقيات وهم إسرائيل ومن حالفها وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية. وقد عزز هؤلاء الحراس هيمنتهم من خلال المال الذي يمسكون به، فيمنعونه أو ينفقونه وفق إرادتهم هم. وما دامت السلطة ومعها جمهور غفير من جماهير الأرض المحتلة/67 يدركون قبضة إسرائيل وأمريكا على المال، فإن التخلي عن الإرادة السياسية أمر مقبول فلسطينيا ومبرر.
من يحكم الضفة الغربية
من الناحية الفعلية، الحكم في الضفة الغربية ليس للفلسطينيين على الرغم من أنهم يظهرون على وسائل الإعلام ويتحدثون عن القرار الوطني الفلسطيني المستقل، وإنما القرار بيد إسرائيل وأمريكا ويعمل على تنفيذه القنصل الأمريكي في القدس المعروف بالمندوب السامي الأمريكي، والمنسق الأمني الأمريكي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية ومؤسسة ال USAID. هناك مظلة إسرائيلية أمريكية تراقب وتوجه وتخطط وتأمر، وعلى الفلسطينيين التنفيذ ضمن الحيز المعطى لهم. وإسرائيل تتدخل إذا عجز هذا الثلاثي الأمريكي عن القيام بالواجب.
الحيز المعطى للفلسطينيين محصور بمساحة المظلة، وبإمكانهم أن يلعبوا تحت المظلة وليس فوقها أو خارجها، والعقاب يطالهم إذا لم يلتزموا من خلال منع الأموال وعقوبات أخرى يمكن أن يستعملها الإسرائيليون والأمريكيون وقت الضرورة مثل منع المسؤول من التنقل. بإمكان الفلسطينيين أن يتصارعوا ويقتتلوا، وبإمكانهم أن يفسدوا، وأن يسرق بعضهم أموال بعض، وأن يتزاحموا على المناصب والمنح والعطايا، لكنه ليس بإمكانهم التوقف عن التنسيق الأمني والإداري مع إسرائيل. عليهم الوفاء بالتزاماتهم تجاه إسرائيل، ولهم أن يصنعوا بأنفسهم بعد ذلك ما يشاؤون.
المعنى أن الضفة الغربية ليست بحاجة لا إلى رئيس سلطة ولا إلى رئاسة وزراء، ولا إلى كل هذه التسميات التي لا تعبر عن حقيقة الأمر. هذه تسميات أو مسميات ليست في مكانها وتصنع أوهاما لدى العديد من الفلسطينيين بأنهم أصحاب استقلال وقرار. ومن ظن أن هناك رئيس وزراء أو رئيس سلطة لا يجد وقتا من زحمة العمل فهو واهم.
الصراع ضد فياض
لم يكن الصراع ضد فياض من أجل فلسطين، ولم تكن هناك قضايا فلسطينية جادة مطروحة من أجل التخلص منه كرئيس للوزراء مثل التخلي عن اتفاق أوسلو، أو تخصيص ميزانية واسعة للتنمية الزراعية، أو التوقف عن التنسيق الأمني مع إسرائيل، أو تقديم حق العودة على مسألة إقامة دولة، وإنما تمحورت القضايا حول أبعاد شخصية تتلخص بالأموال والمناصب. هناك من أحسوا أنهم خارج لعبة الوجاهة والمنصب، وأن نصيبهم من المال قد تقلص أو تبخر، فقرروا أن يتهموا فياض بالخيانة. اتهموه أنه رجل أمريكا على الرغم من أنهم يطبعون مع إسرائيل ويساعدونها أمنيا وإداريا، ويعترفون بها قانونيا، ويرجون اللقاء مع القنصل الأمريكي. لقد كانت المنابزات أشبه ما تكون بصراع على الخيانة وليس من أجل الوطن.
فهل سيخرج الفلسطينيون من تحت المظلة الأمريكية الإسرائيلية بعد غياب فياض؟ طبعا لا لأن رئيس السلطة الفلسطينية لا يستطيع تعيين رئيس وزراء لا تتوفر فيه المعايير الخارجية، أو يسعى إلى التمرد على الوضع القائم وعدم المحافظة على الالتزامات الفلسطينية تجاه إسرائيل أمنيا وإداريا. وإذا كان لرئيس السلطة أن يفعل ذلك، فإن أدوات إسرائيل وأمريكا في تغيير الأوضاع متعددة، والدولتان متحكمتان تماما في رقاب الفلسطينيين من عدة زوايا. تتحكم الدولتان بالمال، وتمتلكان العديد من الجواسيس والعملاء الذين وصلوا سدة التأثير في القرار أو اتخاذه، وبإمكانهما القيام بإحراءات كثيرة للمضايقة والإركاع، وغير ذلك.
وعله فإنه ليس من المتوقع أن يختلف رئيس وزراء فلسطيني في الضفة الغربية عن آخر. يجب أن تتوفر في كل رئيس وزراء صفات وميزات معينة تدفعه للالتزام بالمتطلبات الإسرائيلية والأمريكية والتي تتناقض تماما مع الحقوق الوطنية الفلسطينية. فسواء كان رئيس وزراء السلطة أحمد أو سعيد أو علي او ممدوح لن يتغير على الفلسطينيين شيء في السياسة العامة أو الخارجية.
الوضع الاقتصادي
هناك من يقول إن رئيس الوزراء يملك القدرة على وضع سياسة اقتصادية تحل المشاكل الاقتصادية والمالية التي يعاني منها الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، وإن رئيس الوزراء الجديد سيعالج هذه المشاكل التي عجز عنها فياض. هذا قول صحيح لو كان للضفة اقتصاد خاص بها، أو لو أصر الفلسطينيون منذ البدء على إقامة اقتصاد خاص بهم. إسرائيل وأمريكا تتحكمان بالاقتصاد الفلسطيني، وهما لا يمكن أن يسمحا باقتصاد فلسطيني خاص لأن ذلك قد يؤدي إلى اعتماد الفلسطينيين على أنفسهم اقتصاديا وماليا. الاعتماد على الذات يشكل خطورة على إسرائيل وعلى السياسة الأمريكية لما ينطوي عليه من تطوير إرادة سياسية حرة، وما يمكن أن يتبعها من تمرد على تنفيذ الالتزامات الفلسطينية تجاه إسرائيل. سياسة إسرائيل وأمريكيا الاقتصادية تقول بأنه يجب إبقاء الفلسطينيين تحت التبعية الاقتصادية ليبقى حبل المشنقة الاقتصادية ملفوفا حول رقابهم.
رئيس الوزراء السابق لم يرفع الضرائب مثلا لأنه أراد الإثقال على الناس، لكن ذلك كان مطلوبا أمريكيا لفحص إرادة الناس على دفع الضرائب ورد فعلهم على ذلك. ولذلك لم يتوان نتن ياهو وأوباما في تقديم الدعم المالي السريع للسلطة عندما اشتدت الاحتجاجات في الضفة. إسرائيل وأمريكا تحتاجان السلطة الفلسطينية الآن ولن يسمحا بانهيارها.
يفضل الأمريكيون والإسرائيليون زيادة مساهمة الفلسطينيين بميزانيتهم، لكن ليس إلى الحد الذي يهدد وجود السلطة واستمرارها. وهذه القاعدة تنطبق على سياستهما تجاه رئيس الوزراء الجديد. لا يوجد اقتصاد فلسطيني مزدهر لكي تزدهر معه جباية الضرائب، والأمريكيون والإسرائيليون لن يسمحوا بتنمية اقتصادية فلسطينية مستقلة، وعلى الفلسطينيين أن يتوقعوا بقاءهم تحت التهديد باستمرار، ولن ينجيهم من هذا إلا قراراهم بالتمرد على الاتفاقيات مع إسرائيل.
الهروب من الحقيقة
الحقيقة الماثلة في الضفة الغربية تقول إن الفلسطينيين ليسوا أصحاب قرار، وأن الأمريكيين والإسرائيليين هم في النهاية الذين يقررون. هناك هامش ثانوي وضئيل أمام الفلسطينيين لاتخاذ قرارات وهو متعلق ببعض العلاقات الداخلية الثانوية والمنافسات والإمعان في الفساد والمناكفات التي تستنزف الطاقات، لكنهم لا يستطيعون القفز عن إرادة الغير فيما يتعلق بمسائل تتعلق بإسرائيل. فمثلا لا يستطيع الفلسطينيون فتح شارع جديد داخل مدينة إذا اعترضت عليه إسرائيل، ولا يستطيعون حفر بئر ماء داخل مدينة إلا بإذن من إسرائيل. يسمح الإسرائليون أحيانا للسلطة بتصرف يقيم لها شأنا أو هيبة، لكن هذا السماح موسمي ولا يشكل ظاهرة.
ولهذا ما هو متوقع الآن على الساحة الفلسطينية مع رئاسة الوزراء الجديدة يتعلق بصورة كبيرة بإعادة ترتيب مراكز القوى داخل السلطة الفلسطينية بحيث يخسر بعض المتنفذين السابقين بعض مواقعهم وحظوظهم المالية والترفيهية لصالح آخرين ممن كانوا بعيدين عن الحلقة السياسية الأولى. وسيبقى الخاسرون والرابحون تحت المظلة الخارجية على الرغم من إطلاقهم للشعارات الوطنية الساخنة بين الحين والآخر.
والحقيقة المرة التي يحاول قادة السلطة الفلسطينية الهروب منها تتعلق بأزمة الشرعية. أين هي الشرعية الفلسطينية إذا كان رئيس السلطة يلعب في الوقت الضائع، وكذلك المجلس التشريعي ومجالس منظمة التحرير، ورئاسة الوزراء بدون ثقة المشرع؟
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية