حلال للإسرائيليين حرام على الأميركان
د. منار الشوربجي
تستحق الحملة الشرسة التي يتعرض لها أحد مراكز الفكر القريبة من إدارة أوباما، المتابعة والتأمل. فهي تكشف عن تحولات مهمة ينبغي الانتباه لها. والمركز المقصود هو "مركز التقدم الأميركي"، أحد مراكز الفكر التقدمية في واشنطن، والذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع إدارة أوباما.
والمركز يتعرض منذ شهور لوابل من المقالات في كبريات الصحف الأميركية، التي تتهمه والعاملين فيه بنشر "مادة معادية لإسرائيل، وتنضح بالكراهية المسمومة تجاه اليهود"، ويصل بعضها إلى مستوى "العداء للسامية". والعداء للسامية اتهام خطير في أميركا، من شأنه تدمير المستقبل المهني والسياسي للمتهم به.
أما حيثيات الاتهام فهي أن أحد الشباب الباحثين في المركز، استخدم في مدونته تعبير "أنصار إسرائيل أولاً" لوصف بعض اليهود الأميركيين، وتعبير "الأبارتيد" لوصف ما يجري في الأراضي العربية المحتلة، بينما كتب آخر على مدونته يعتبر حصار غزة "مقيت أخلاقياً". ويقول الاتهام إن "أغلب ما يأتي في المدونات يقوم على رؤية تتهم إسرائيل بالمسؤولية عن تعثر المفاوضات مع الفلسطينيين، وتقلل من شأن التهديد الإيراني".
وكما يتضح من الاتهامات الموجهة للمركز، فإن كل ما جاء فيها يتعلق بأمور لم تنشر باسم المركز أو حتى على صفحة المركز الالكترونية، وإنما نشرت في مدونات شخصية، باستثناء ما اعتبرته الحملة "التقليل من شأن التهديد الإيراني واعتبار إسرائيل مسؤولة عن تعثر المفاوضات". وذلك الاستثناء يمثل وجهة نظر تتعلق بمواقف للحكومة الإسرائيلية، ولا علاقة لها من قريب أو من بعيد باليهود، وإلا لكان انتقاد أداء الحكومة المصرية أو الحكومة السعودية معناه العداء للمسلمين!
لكن ما هي إلا فترة قصيرة حتى تبين أن اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة، المعروفة اختصارا باسم "إيباك"، أي لوبي إسرائيل الرسمي في واشنطن، هي التي تقف وراء تلك الحملة. فقد تسربت للإعلام رسالة إلكترونية كتبها أحد رموز إيباك، وأرسلها لقائمة من الكتاب والصحفيين من المحافظين الجدد واليهود اليمينيين، يدعوهم لشن حملة ضد المركز و"التهويل" من شأن الاتهامات الموجهة ضده والتي أرفقها في رسالته. ورغم افتضاح أمر الرسالة، إلا أن الحملة لم تتوقف، بل مضت في مسارها إلى أن اضطر مركز التقدم الأميركي، لتنقية كل المواد المنشورة على صفحته الإلكترونية، من كل ما قد يحمل ولو مجرد شبهة انتقاد لإسرائيل والاحتلال والاستيطان! وهو ما يعتبر انتصارا لقوى اليمين الأمريكي عموما، فاحتفى بها المحافظون الجدد واليهود الأمريكيون الليكوديون، فضلا عن اليمين المسيحي.
لكن الحملة الشرسة ضد المركز، أثارت الكثير من اليهود الأمريكيين التقدميين، فهبوا للدفاع عنه. وقد اعتبر أولئك اليهود الأمريكيون، أن المسألة تذهب إلى ما هو أبعد بكثير من المركز ولا علاقة لها بالعداء للسامية، وإنما هدفها الحقيقي هو إرهاب وإسكات كل الأصوات التي تنتقد سياسات إسرائيل في الأرض المحتلة، أو تقف ضد الحرب على إيران التي بدأت طبولها تدق في واشنطن وتل أبيب.
وراح أولئك اليهود الأمريكيون يفندون الاتهامات التي تكيلها إيباك، الواحدة بعد الأخرى، فقالوا، على سبيل المثال، إن استخدام "تعبير أنصار إسرائيل أولا" لا علاقة له بالعداء للسامية أو كراهية اليهود، لأنه يصف وضعا قائما بالفعل، حيث أن هناك بعض اليهود الأمريكيين يقولون ذلك بأنفسهم. وأعطوا أمثلة عدة كان من بينها رجل الأعمال اليهودي الأميركي حاييم سابان، والذي سمي باسمه مركز بروكينغز لدراسات الشرق الأوسط، وقد قال صراحة "أنا عندي قضية واحدة، وقضيتي هي إسرائيل". أما تعبير الأبارتيد، فقالوا إن الكثيرين استخدموه؛ من الرئيس كارتر ودسموند توتو إلى الإسرائيليين أنفسهم، بمن في ذلك إيهود باراك بالمناسبة.
وإزاء تلك المواقف الشجاعة، ضمت إيباك فورا أولئك الكتاب اليهود إلى المستهدفين بحملتها الشرسة. والاتهام المقابل للعداء للسامية إذا كان المستهدف يهوديا، هو اتهامه بأنه "يهودي كاره للذات". والاتهامان يستخدمان في أمريكا لتشويه السمعة، وطرد المستهدف من عمله وتدمير مستقبله، والهدف النهائي أن يكون هؤلاء عبرة لكل من يجرؤ على انتقاد "إسرائيل" أو أنصارها في واشنطن.
والمفارقة أن تلك الحملة لم تشمل فقط أولئك اليهود التقدميين، وإنما امتدت لتشمل رموزاً يهودية أخرى معروفة بإيمانها بالصهيونية وبتأييدها القوي ل"إسرائيل"، مثل جو كلاين في مجلة "التايم"، وتوماس فريدمان في "النيويورك تايمز"، مما يدل على أن المطلوب هو التأييد غير المشروط لحكومة إسرائيل. فالذنب الذي ارتكبه كل من كلاين وفريدمان، هو أنه جرؤ على انتقاد سياسات حكومة نتانياهو المتطرفة.
لكن، لعل أهم ما كشفت عنه تلك الحملة، هو أن أصواتاً يهودية أمريكية متزايدة لم تعد تبالي بتلك الحملات، وهو ما يعني أن ما فرضته إيباك على اليهود الأمريكيين لسنوات طويلة، من التزام الصمت التام تجاه ما لا يعجبهم من سياسات إسرائيل، آخذ في الانهيار بخطى متسارعة.
غير أن الرد الأكثر قوة على تلك الحملة الشرسة، لم يأت إلا من إسرائيل. فقد نشرت صحيفة هآرتز مقالا للكاتب الإسرائيلي ميراف زونزين، قال فيه إن تلك الاتهامات بالعداء للسامية لا أساس لها مطلقا، ثم فرق بين "دعم إسرائيل الذي تحتاجه الأخيرة" وبين "دعمها بلا قيد أو شرط وهو ما يضر بها". وقدم الكاتب في عبارات صارمة، رداً على حكاية "أنصار إسرائيل أولاً"، فقال إن هؤلاء "هم الذين يضعون أجندة إسرائيلية يمينية أولا، حتى ولو على حساب المصالح الأميركية".
كان الرد القادم من "إسرائيل" أقوى من كل ما كتب في أميركا، وهو الذي يكشف إحدى مفارقات العلاقات الأميركية الإسرائيلية. فما يقوله الإسرائيليون أنفسهم عن "إسرائيل"، محظور على الأميركيين قوله أصلاً!
صحيفة البيان الإماراتية
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية