حوار صحفي مع الأسير شاليط!!
كتب – مصطفى الصواف – فرصة لو عرضت على أي صحفي في العالم فلن يتردد، وسيبذل كل ما يستطيع من أجل تحقيقها، كيف لو جاءت لك هذه الفرصة تتهادى، وتجثو بين يديك، هل أنت رافضها، أم تُقبل نحوها مبتسماً شاحذ الهمة، كونها فرصة مستحيلة التحقق، فكيف بها متحققة بين يديك.
في الشرق في الغرب، في الشمال، في الجنوب، تحت الأرض أو فوق الأرض، في عرض البحر، لم أناقش، وانطلقت حيث شاليط، وإذا به بين يدي رجل ستيني يجلس مسامراً له، توقفت برهة وسألت نفسي، شاليط يتحدث العبرية، وأنا لا أتحدث العبرية، فكيف لي أن أفهم منطقة؟ سألت الرجل الستيني ذو اللحية البيضاء من يرافق شاليط في أسره: يبدو أنك تتحدث العبرية بطلاقة، قال نعم، قلت الحمد لله، فأنا جئت إلى هنا من أجل أن ألتقي بشاليط وأتحدث معه، ولكنني لا أجيد العبرية، رد قائلاً : لا عليك سأكفيك ذلك، وسأقوم بترجمة أقواله حرفياً، فأنا ضليع بالعبرية.
نظر شاليط نحوي مستغرباً، وفي نفسه يقول ، ما الذي يجري؟ وكيف وصل هذا الرجل إلى هذا المكان؟ ابتسمت في وجهه، وقلت له الكلمة العبرية التي أعرفها من عدد الكلمات القليلة التي أحفظها، (شالوم شاليط) ، فرد بصوته الناعم (شالوم أدوني)، كان شاليط مبتسماً مهندماً وكأنه يعيش في كنف أمه، أو صديقته، تسريحة شعره كما اعتاد أن تكون، يجلس على أريكة مريحة ومناسبة وذات ألوان زاهية متناسقة، وزنه قد يزيد عن الستين كيلوجرام قليلاً، وجلست بجواره بعد أن مددت يدي إليه مسلماً، فسلم مرحباً، وقال كلمات لم أفهمها، وفسرها الستيني لي وقال : يقول لك أهلاً وسهلاً تفضل.
توجهت إلى من بصحبته وقلت له، أنا صحفي وجئت إلى هنا لعمل هذا اللقاء مع شاليط، وهي فرصة يمكن ألا تتاح في الأسر، وفيها ما يطمئن الأهل والأصدقاء لشاليط، فإذا كان يقبل أن أجري معه اللقاء فهذه مناسبة طيبة، وإذا رفض فلن أكون متطفلاً عليه، وهو له مطلق الأمر في القبول، أو الرفض، ابتسم شاليط بعد الترجمة مرحباً بالفكرة علّها تحمل رسالة إلى حكومته وأهله وأصدقائه.
شعرت بعد موافقته بانشراح في صدري، أخرجت ورقتي وقلمي، وفتحت جهاز التسجيل، وتهيأت للحديث وطرحت السؤال الأول:
** كم من السنوات لك في الأسر؟
- الآن على وشك إتمام السنة الرابعة، منذ أن وقعت في قبضة رجال المقاومة بعد أن أخرجوني من دبابتي، وقد أصبت بجراح، عولجت منها، وأنا الآن بصحة جيدة كما ترى.
** كيف يتعامل معك آسروك؟
- قد لا أبالغ إن قلت لك إنني لم أتوقع أن تكون معاملتهم لي بهذه الطريقة الحسنة، خاصة أننا تعلمنا في المدارس وفي الجيش أن العرب قتلة ومجرمون، وأنهم يستحقون الموت؛ ولكن هذه السنوات التي عشتها بين أيديهم أكدت لي أن ما تلقيته من تعليم وتعبئة ليست حقيقية، وأن هؤلاء أناس بشر لهم مشاعرهم وأحاسيسهم، وهم يحبون الحياة، ويتعاملون بطريقة حضارية وإنسانية، على عكس ما كان يقال.
** هل تعرضت للضرب أو التعذيب كما يفعل السجانون في سجونكم مع الأسرى الفلسطينيين؟
- كل ما حدث معي أنني مكثت عدة أيام وأنا أعالج من جروحي التي أصبت بها على أيدي طبيب، وبعد أن تماثلت للشفاء سُئلت عدداً من الأسئلة دون أن أمس حتى بكلمة جارحة، أو أضرب بعود ريحان، وعاملوني معاملة إنسانية، ولا تزال المعاملة كما هي رغم كل الذي جرى خلال الحرب على غزة، والجرائم التي ارتكبها جيشي، وكانوا حريصين على حياتي إلى أبعد الحدود، ولكنه السجن والعذاب النفسي، الناتج عن الابتعاد عن الأهل والأصدقاء، رغم أن هناك محاولة من قبل الآسرين للتخفيف عني نفسياً.
** هل سمعت عن المفاوضات التي جرت بين المقاومة الفلسطينية وحكومتك عبر الوسيط المصري والوسيط الألماني، كيف نظرت إليها، وهل انتظرت أن تسفر عن نتيجة إيجابية؟
- نعم تابعت عبر المتواجدين معي ما جرى من مفاوضات، وعلقت عليها آمالاً كبيرة، وكنت فرحاً على أمل أن أخرج من هنا، ويخرج الأسرى الفلسطينيون، ولكن مع نهاية كل جولة كنت أصاب بإحباط نفسي شديد نتيجة عدم التوصل إلى اتفاق، نتيجة التعنت والمراوغة من قبل حكوماتي، ورفضهم الاستجابة لشروط الصفقة.
** واليوم وبعد فشل الصفقة بسبب رفض نتنياهو الاستجابة للوساطة الألمانية، هل ترى أن هناك أمل في تحريك الصفقة، وكيف؟
- أنا بطبعي متفائل، لأنني أحب الحياة، وأريد أن أعيش بحرية، وأعود إلى أحضان أمي وأبي اللذين اشتقت إليهما، وإلى صديقتي وأصدقائي، ولكن يبدو أن حكومتنا لا تشعر بهذا الشعور الإنساني الذي يمزق أحشائي ونفسي، كما يمزق والدي وأصدقائي، وظني أن الحكومة الإسرائيلية ستوافق على شروط الصفقة لو كان هناك نوع من الضغط من قبل شعبي لدفعها للاستجابة لشروط المقاومة حتى يتم خروجي، وهذا الأمر لن يكون مستحيلاً، وعلى نتنياهو أن يشعر بشعور الأب قبل المسئول، وأسأل لو كان ابن نتنياهو هو الأسير ماذا سيفعل؟ هل سيرفض الصفقة؟ هل سيتركه في الأسر كما تركوني؟ أم سيعمل بكل الطرق على عودتي إلى أهلي كما وعد في حملته الانتخابية.
لا زلت على أمل أن أرى النوأ، وأن أعود حتى أعيش بسلام، وعندما أخرج سأدفع بوالدي وأهلي وصديقتي إلى الخروج من بلادكم، والعيش في بلاد بعيدة عنكم، لأنني بت على قناعة أننا نحن المغتصبون لدياركم، وأنا إنسان من الضروري أن أشعر بشعور الآخرين، خاصة أنكم تعذبتم نتيجة ما فعله شعبي بكم على مدار عشرات السنين.
** هل تعلم أن أحد المعتقلين الفلسطينيين في سجونكم مضى عليه قبل أيام ثلاثة وثلاثون عاماً وهو خلف القضبان؟
- نعم حدثني بذلك هذا الرجل، وحزنت كثيراً ، كيف يعيش هذا المعتقل منذ ثلاثة وثلاثين عاماً، وسألت نفسي وأنا ارتعد خوفاً من أن أبقى هنا سنوات وسنوات نتيجة عدم المسئولية من قبل حكومتي، وهل سأبقى هنا؟ ويموت أبي وأمي ولا أقدر أن أراهما، أو أمشي في جنازتيهما كما حدث مع البرغوثي، أو مع غيره من المعتقلين الفلسطينيين، كابوس يؤرقني في منامي ويومي، ولا أتصوره .. أنا أعشق النور والحرية، هذا فظيع فظيع، يجب أن تنتهي معاناتي ومعاناة الآلاف من الأسرى الفلسطينيين. هنا أخذ شاليط يبكي ويكفكف دموعه خوفاً من مصير مجهول.
** واصلنا الحديث بعد أن هدأته، وعاد وابتسم، معتذراً، لأن ما حدث هو شعور إنساني، وقال: ( أنا إنسان، أنا بشر، من دم ولحم ومشاعر) وسألناه: والدك ناعوم ووالدتك خاطبوا كل المسئولين في حكومتكم، وحركوا الكثيرين من الناس، بل وذهبوا أبعد من ذلك، فزاروا ألمانيا وفرنسا، وناشدوا بان كي مون من أجل العمل على إطلاق سراحك وعودتك إليهم سالماً، كيف ترى السبيل إلى ذلك؟.
- بتنهيدة كادت تمزق صدر شاليط بعد صمت مطبق، قال: الطريق معروف، والمسألة سهلة، أنا أعرف أن المقاومة طالبت حكومتي بتحقيق عدد من الشروط الإنسانية بحق الأسرى الفلسطينيين في سجون حكومتي، وهي شروط قابلة للتحقيق، وليست مستحيلة، وهي أولاً وأخيراً حق، خاصة أنها تتحدث عن معتقلين لهم عشرات السنين ومرضى ومحكومين بمئات السنين، أنا عقلي لا يستوعب أن أمضي مثلهم، أو مزيداً من السنوات في الأسر، أكاد أجن رغم أنني ألقى معاملة حسنة، فكيف بهؤلاء الذين من المفترض أن يخرجوا من هذا السجن اللعين، إنهم أسرى حرية، اعتقلوا وهم يدافعون عن حق يعتقدونه صواباً.
المطلوب واضح وبيّن، ومن يريد أن يُخرج ابنه ومواطنه من الأسر يجب أن يُخرج مقابل ذلك هذا العدد المطلوب من قبل المقاومة لأنه الطريق الوحيد إلى حريتي، فحكومتي لم تترك وسيلة إلا واتبعتها، حتى القتل الذي جرى في العدوان الأخير، وأعتقد أن نتنياهو واهم إذا كان يعتقد أن بمقدوره الوصول لي بأي طريقة، فلم يبق وسيلة هو ومن سبقه؛ إلا اتبعها ولم يصلوا إليّ، وإن وصلوا سأدفع حياتي ثمناً لحماقة سيرتكبونها، فلماذا لا يختصرون عليّ الطريق والعذابات ويوافقون على الصفقة حتى أخرج إلى الحياة، وأعيش بين أهلي الذين أحب، ويعيش الآخرون أيضا بحرية بعد كل هذه العذابات.
** لو لم توافق حكومتك على الصفقة، فأي مصير تعتقد أنه ينتظرك؟.
- صعب على نفسي أن أفكر بغير تفكير واحد وهو الحرية، والانعتاق من الأسر، فأنا قلت لك أعشق الحياة، وأكره الموت، لماذا يريدون لي أن أموت؟ أمن أجل غرورهم وصلفهم؟ أم من أجل ماذا؟ ولماذا كل هذا العذاب لي ولأهلي؟ ألستُ ابن حكومتي؟ أم أنا لقيط؟ ألم أكن في معركة عسكرية للدفاع عن شعبي؟ إذن المفترض أن لا يكون هناك تفكير إلا في اتجاه واحد هو أن أخرج في أسرع وقت، وبأسهل الطرق وهو تحقيق الصفقة.
** لا أريد أن أطيل عليك، ولربما فتحت عليك آلاماً كثيرة أعتذر؛ ولكن ما رسالتك إلى أهلك ووالدك ووالدتك ومن تحب؟.
- أقول لهم بدايةً، أنا صحيح أتمتع بحالة صحية جيدة، وأتلقى معاملة حسنة، ولا أتعرض لأي مضايقات، أو تعذيب، أنام كما أريد ووقتما أريد، وأجلس وأقرأ ،وأتحدث، ولكن أنا أعاني معاناة شديدة نتيجة الأسر والبعد عنكم، ورجائي إليكم وإلى شعبي الذي أُسرت وأنا أدافع عنه أن يتحرك، ويضغط على حكومتنا من أجل العمل على إطلاق سراحي بأي ثمن، فالحرية ثمنها غالٍ، ويجب أن تدركوا أنني لا أريد أن أموت، وأنا كما تعلمون أبي وأمي كم أحب الحياة، ساعدوني باسم الرب على الحياة والعودة إليكم، وإلى الحرية التي بها يجب أن أعيش.
** رسالتك إلى حكومتك ورئيس وزرائها؟.
- أما حكومتي فإنني أنصح لها أن لا تعيش في الوهم، وتعتقد أن ممارسة التعذيب والحرمان بحق المعتقلين الفلسطينيين سيعجْل بالإفراج عني، أو يدفع المقاومة نحو تعديل شروطها، رغم أن هذا الإجراء من قبلكم لم ينعكس على حياتي، فأنا لا أزال ألقى المعاملة الحسنة، كما أؤكد لك سيادة رئيس الحكومة نتنياهو، أن تصلّبكم لن يجدي نفعاً، وتهديداتكم لن تثني من يأسرني عن هدفه، وأنصحكم أيضاً بأن لا تغامروا بعمل أحمق أو مجنون، لأن ذلك سيكون ثمنه حياتي، وإن كنت أشك أنكم ستصلوني، وأدعوكم لأن تختصروا الطريق نحو إطلاق سراحي عبر الموافقة على الصفقة، لأنها الطريق الأقصر، والتي ستنفذونها مهما طال الزمن، لماذا لا تختصرون الطريق وتنهون المعاناة التي أعيشها وأهلي وأصدقائي؟!
** رسالتك إلى فرنسا التي تمتلك جنسيتها، والتي ترغب في التوسط لدى المقاومة للإفراج عنك؟.
- أقول للرئيس الفرنسي ساركوزي، إذا تخلّت حكومتي عني، فلا تتخلوا أنتم، واختصروا الطريق، لأن الشروط واضحة، وموقف من أتواجد عندهم واضح، ويبدو أنه نهائي، فلا تبدؤوا مرحلة التفاوض من نقطة الصفر، لأن ذلك سيطيل الأمد، وواصلوا المشوار من حيث انتهى المفاوض الألماني، واضغطوا على حكومتي من أجل التخلي عن نرجسيتها وغطرستها وأحلامها.
**كلمة أخيرة لمن توجهها؟.
أوجه كلمتي إلى شعبي وباختصار، وأقول لهم ( أحب الحياة فساعدوني على الحياة ): ابنكم جلعاد شاليط.
كان ذلك كله في لحظة حلم استيقظت بعدها مسجلاً هذا الحوار.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية