خرائطُ تبحثُ عن طُرُق
خيري منصور
لا نعرف بالضبط من هو الذي استخدم مصطلح خريطة الطريق لأول مرة، رغم أن المفاوضات الفلسطينية مع الدولة الصهيونية شهدت إفراطاً في استخدام هذا المصطلح الذي أصبح مفرغاً من مضمونه، لأنه يعني كل شيء ولا يعني شيئاً محدداً، ومنذ بدء تلك المفاوضات شاع استخدام خريطة الطريق حتى أصبح عنواناً بارزاً في الحراك العربي، ولا نبالغ إذا قلنا إن هناك من يستخدمون المصطلحات بمعزل عن دلالاتها الدقيقة، ومنها للمثال فقط، مفهوم الدولة المدنية والعلمانية كمقابل أو نقيض للدولة الدينية، وهذا بحد ذاته أمر مشكوك في صحته تاريخياً وسياسياً.
الآن ما أكثر الطرق وما أقل الخرائط، لكن الوجه الآخر لهذه الصورة المستنسخة هو تعدد الخرائط التي بلا طرق على الإطلاق. فأي طريق يقصدون؟ خصوصاً إذا تعلق هذا السؤال ببلد عربي كبير كمصر؟ فهل يقصدون غياب الرؤى الشاملة والمناهج المحددة أو مجمل المشهد في البلاد التي تشهد تغييرات دراماتيكية متسارعة ومصحوبة بشيء من الغموض الذي يتجسد في ما يسمى الطرف الثالث الذي تنسب إليه أفعال العنف المضادة لأحلام التغيير الفعلي والانتقال السلمي بحيث يسلم الجيش المفاتيح إلى المدنيين بعد الاحتكام إلى صناديق الاقتراع بدءاً من البرلمان حتى الرئاسة؟
إن الشيء الوحيد الذي بلا طرق هو الغابة العذراء التي يشتق أو يجترح منها طريقاً مْنَ يجازف باختراقها، فهل ثمّة من يبحثون الآن عن طرق في الغابات رغم كل هذه التضاريس الاجتماعية والسياسية والعمرانية للعالم؟ وليس ما تنفرد به الغابة هو امّحاء الطرق، بسبب اشتباك أشجارها، ولأنه ما من أحد عبّدها أو طرقها كي يصبح لها دليل سياحي أو سياسي. فهي أيضاً، كما يقال، تخفي الشجرة كما أن الشجرة تخفيها، فهي عن بعد تبدو مجرد كثافة خضراء نراها ولا نرى أية شجرة فيها وعندما نقترب منها يتغير المشهد جذرياً فنرى شجراً ولا نراها. وهذا المثال لا ينأى كثيراً عمّا يحدث الآن اجتماعياً وسياسياً في الواقع العربي، لأن هناك من يرون جمهوراً أو جماعات بشرية، لكنهم لا يرون أي فرد من مكونات هذا الجمهور، ومن هنا تضخم التجريد في المعالجات، وأصبح الخطاب السياسي أشبه باللوغاريتمات، مادام الجمهور يخفي الفرد كما تخفي الغابات أشجارها، والعكس صحيح أيضاً.
لقد حلت عبارة خريطة الطريق مكان مفردة كانت أثيرة لدى المشتغلين في السياسة والإعلام هي "الإطار". والمقصود به التخطيط الأولي لتحديد نقاط ومحاور التفاوض أو الحوار، لكن كلمة إطار بدت فضفاضة ومطاطية ومجرد حدود لملعب لا تُحَددُ مساحته، لهذا جاء مصطلح الخريطة لِيُعْنَى بالتفاصيل ورسم التضاريس كي تكون هناك لغة مشتركة أو "شيفرا" تنقذ المتحاورين من حوار الطرشان.
وإذا اتفقنا مبدئياً على أن ردود الأفعال، مهما بلغت، سوف تبقى محرومة من المبادرة والإمساك بزمامها، فإن غياب الرؤى والمناهج وأخيراً الخرائط هو نتيجة حتمية لكل هذا.
فالثورات على تباين منسوب الحرارة والجذرية فيها، تبدأ بمبادرات لكنها عندما تتعرض للاختطاف في أول الطريق تنتقل من المبادرة والفعل إلى ردود الأفعال، وقد تنشغل بصراع جديد مع ما يسمى الثورة المضادة أو معوقات استمرارها، على اختلاف مصادرها، أو تتورط بما هو انتقامي على حساب الانتقالي.
إن ركاماً من الخرائط لطرق ليست من هذا الواقع، بقدر ما هي مجردة أو متخيّلة، أشبه بركام من الوصفات الطبية لمريض لا يرقد في سريره لأنه شفي من مرض أخطأ الأطباء كلهم في تشخيصه. والأرجح أن الناس الذين جاعوا وشردوا وحرموا من الحريات وحق التعبير، هم الأولى برسم الخريطة لأنهم الأدرى بشعاب الطرق التي اجترحوها سواء في غابة محترقة أو في محيط هائج!
أما رسامو الخرائط ومقاييس رسمهم النظرية، فقد يفاجأون بأنه ما من طرق تقدم المجال الحيوي لاختبار خرائطهم.
صحيفة الخليج الإماراتية
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية