خيبات أسعد أبو خليل في حضرة «حماس»
نشر الدكتور أسعد أبو خليل، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، مقالًا أراد منه انتقاد موقف «حماس» من الأحداث الدائرة في سورية، على نحو تهريجي، بتناول شخص الأخ خالد مشعل، وتشبيهه بوليد جنبلاظ، وهي طريقة في الاستظراف يحبها أسعد أبو خليل، وإن تطاولت على الدقة المطلوبة من كاتب صنعته الأساسية هي الأكاديميا، وإن جارت على الصدق الذي يحرص عليه كل صاحب مروءة مهما كان أليمًا على النفس المترعة بالمشاعر الأيديولوجية القاهرة، وخيباتها الأسيفة!
والدكتور أسعد؛ الشيوعي الثوري الراديكالي اللبناني الذي يعيش ويعمل في أمريكا، له طريقته الخاصة في النضال الثوري، فمع زعمه أنه تلميذ لـجورج حبش، الأمين العام السابق لـ «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، فإنه لم يقتد بحبش في أي شيء، فلا بقي في المنطقة العربية، يعيش مع أهلها، ويقاتل مع مقاوميها، أو يخدمهم وهو بينهم، ولا أنصف الحركة الإسلامية التي أنصف نضالها حبش أكثر من مرة، فـ "العربي الغاضب" -كما يحب أبو خليل أن يسمي نفسه- يغضب على الرأسمالية، والليبرالية، والعرب، والإسلاميين، ومشيخيات النفط والغاز، واليسار الذي في خدمة اليمين، من كاليفورنيا، متفجرًا غضبه في صحيفة «الأخبار» اللبنانية المقربة من «حزب الله»، أو في مواقع التواصل الاجتماعي المملوكة لمؤسسات رأسمالية غربية، مستخدمًا تقنيات كبرى الشركات المسجلة في داو جونز وناسدك.
والحق؛ أن العيش في أمريكا، والعمل في مؤسساتها الرأسمالية، واستخدام منتجاتها، ليس أمرًا معيبًا، وإنما يُلزم المرء بما يُلْزِمُ به نفسه، ويدعيه فكرًا ومنهجًا وسلوكًا له، فمن زَعَمَ أنه تطور من الماركسية اللينينية إلى الفوضوية الإلحادية -أو كما يقول بالحرف في تويتر: "اخترت كارل ماركس في سن الحداثة, ونشأت تحت هدايته وهداية لينين (وباكونين فيما بعد)"-، الأجدر به أن يُصَدِّق فعلُه قولَه، فباكونين الذي اختلف مع ماركس في بعض مفاهيمه، كان متمردًا دافعًا ثمن تمرده، ولم يختر أيسر الطرق وأكثرها انتهازية لتغطية خيبته، كما أن النقد وإن كان من أمريكا، ما خلا من مزاودة وبخس الناس تضحياتهم وجهدهم فهو مقبول، والمزاودة قد تكون محتملة من صاحب زيادة وفضل، فلا أبو خليل صاحب زيادة وفضل، ولا اجتهد في احترام تضحيات مخالفيه الذين لا يقاربهم ولا يدانيهم في ذلك.
والتناقض سمة أساسية في أقوال وأفعال أسعد أبو خليل، فهو حتمًا؛ وقد جُرب واختبر، لا يحتمل هذا الكلام -إلى درجة حذفه مصارحيه به من حساباته على تويتر وفيسبوك- ويعتبره مدخلًا شخصيًا لا موضوعيًا، مع أنه لا يكاد يترك شخصًا من (شتائمه) (سوى حسن نصر الله تقريبًا)، وهو –أي أبو خليل- شخصية عامة تتناول الشأن العام، ومن يرد عليه، يقيس أفعاله إلى أقواله بخصوص الشأن العام، ولا يتعرض لحياته الخاصة، ولا يضطر أحد للرد على أستاذ العلوم السياسية في جامعة كالفيورنيا ببيان هذه التناقضات، إلا أسلوبه الشتائمي الطافح بالمزاودة التي لا حظ لها من أفعاله، ولا رصيد في واقع حياته، وبيان هذه التناقضات ضروري من ناحية منهجية لفحص مصداقيته وموثوقية ما يقول، فمثل هذا التناقض أخو الكذب.
فمن تناقضاته –مثلًا- أنه يشتم السعودية وقطر بنفس القدر، وذات الشتائم يكيلها لإعلام النظامين، لكنه وهو إذ يشتم كل من يظهر في إعلام السعودية، خاصة من يعتبر يساريتهم كذوبة ومدعاة، فإنه لا يتردد عن الهرولة إلى استديوهات الجزيرة في أمريكا، أو الظهور في برامجها المسجلة في "زيارات خاصة" لتوثيق تاريخه "الغاضب".
وعلى ذكر السعودية وقطر، فإنه كان قد جزم بعمالة وتبعية «الإخوان المسلمين» للسعودية، زاعمًا توزيعهم للأدوار مع "عميلها الآخر" (السلفيين)، وبنى على هذا الزعم -المستدعى من أدبيات وطرق الشيوعيين العتيقة في تصنيف المخالفين واتهامهم- بناء عجيبًا من التحليل الرث، ثم لما كذب الواقع تحليله، حينما دعم إعلام السعودية بشكل واضح في الانتخابات المصرية أحمد شفيق، وزع العمالة من جديد، فجعل الإخوان عملاء قطر، والسلفيين عملاء السعودية، مقررًا أن قطر انتصرت على السعودية في مصر بفوز مرسي، مع أن السلفيين دعموا مرسي! ومحللًا أحداث الثورة السورية من خلال منظور الصراع بين قطر والسعودية، وهو تحليل مثيل لتحليل «حزب التحرير» المزمن الذي يجعل أي حدث في العالم مشهدًا للصراع بين أمريكا وبريطانيا، بيد أن الأكاديمي المحترم لم يقر بخطأ تحليله السابق، كأي مثقف يحترم نفسه ولا يعبد أمراضها!
وعودة؛ إلى مقاله؛ فإنه إذ أراد انتقاد موقف «حماس» من الأحداث الدائرة في سوريا، فقد خلط الحابل بالنابل، مستغلًا كل فراغ ممكن –كعادته- للتنفيس عن غيظه، الذي يزيد ولا ينقص، على الإسلاميين عمومًا، و«الإخوان المسلمين» خصوصًا، فانغلاق العقل الشيوعي على جملة من الإعاقات المرَضِية، لا يزال فيه أسيرًا ما يحسبه أبو خليل فكرًا، فهو كسيح أمام وهمين؛ الفرادة الذاتية، والجماهير اليسارية العريضة، تمامًا كهذيان عادل إمام في مسرحية الزعيم وهو يشرح في خطابه الثوري الإمبريالية والتوسعية والثورة والشعب والجماهير العريضة، فكيف لعقله أن تنفتح فيه كوة يرى منها خارجها الذي تتمدد فيه الجماهير المسلمة، التي لم تختر الإسلاميين إلا بإرادتها، لا بالنفط السعودي، ولا بالغاز القطري؟! هذا وأبو خليل ثوري فوضوي راديكالي يقاتل من أجل هذه الشعوب التي يحترمها كثيرًا! لكنه –في حالة مركبة من الشيزوفرينيا والبارافرينيا- يعجز عن رؤية حقيقة تلك الشعوب، التي ليس فيها من أوهام أبو خليل، إلا بقدر ما بقي من الديناصورات من مستحثات لا يعرفها ويهتم بها سوى علماء الآثار!
وقد زاد غيظه من «حماس»، حينما اختطت لنفسها موقفًا مستقلًا عن «حزب الله» بخصوص الثورة السورية، ولعل فيما سبق بيانه من تناقضات لها دلالاتها على الشخصية الخليلية، إضافة إلى إصابته بمتلازمة كراهية «الإخوان»، التي لا تنفك عن الشيوعي العربي عادة، حتى بعد تحولاته، ما يفسر هذا التخبط الذي ارتكس فيه أبو خليل، كاشفًا عن خيباته أكثر مما أساء لـ «حماس»، وحتى لا نظلم أبو خليل، فإن التوجه لعبادة «حزب الله» والتبشير به ومقاومته، هو دين -له طابع انتهازي لا مبدئي- خاص بوسط في اليسار العربي، ، تحديدًا أولئك الأكثر كراهية للإسلاميين السنة، وهذا الدين له شعائره وطقوسه، والتي منها –أحيانًا- نقد مخفف لـ «حزب الله» للتغطية على العجز الشيوعي وهو يرثي خيباته حينما يتجه صوب «حزب الله»، ولعل من أسباب ذلك؛ الصراع الذي كان بين فريق اليسار، والفريق الإسلامي في مرحلة ماضية، وقد انحسرت عن تراجع اليسار، واستمرار التيار الإسلامي بين الجماهير، التي أحسنت التمييز بين تقدمية ثرثرة المزايدات، وتقدمية الأفعال الأصيلة الصادرة عن الروح السارية في الجماهير، ولأنه؛ ولأسباب تتعلق بالشعارات، وضرورات الدعاية، كان لا بد لهذه المستحثات أن تناصر ظاهرة مقاومة، فاختارت من لم ينافسهم –على المستوى العربي- يومًا، ومن لا يمكن له أن يتمدد أكثر، لانحصاره في طائفته التي لم يستطع أن يتجاوزها، وربما يكمن في دوافعهم غير المحسوسة، رغبة طفولية خبيثة للنكاية من البوابة الطائفية، فنصير أمام شيوعي يستنجد بالطائفية لستر دعاواه العارية!
فمن أراد الرد على مقال أبو خليل هذا، لا يملك إلا أن يقول: "لا عجب، إنه المخلاط أسعد أبو خليل!"، مع هذا الهذيان الذي لا ينظمه رابط، سوى اختلاط العقل، وفساد الطوية، وذلك الغل الذي يجول في الشرايين، فإنه وإن أراد انتقاد ما أسماه "انتهازية حماس" في موقفها من النظام السوري، صرف أكثر من صفحة ونصف في شتم «حماس» والانتقاص من مقاومتها، بكلام أكثره باطل، وما شابه الحق فيه لا يخلو من كذب وجهل وعزو إلى مصادر دون التوثيق الذي يحترفه الأكاديمي، وكأنه أبى إلا أن يتعرى من كل ما يستر الدمامل التي يتشوه بها ظاهر خلقه، وجذروها التي يتعفن بها باطنه!
فمن علاقة «حماس» بدول الخليج، معتمدًا على معلومات نسبها لـ «القدس العربي» قبل أشهر، دون أن يحدد العدد والشهر كي نتبين من صدق ما زعمه، إلى علاقتها بالتنظيم الدولي لـ «الإخوان المسلمين»، إلى مشاركتها في الانتخابات التشريعية! إلى موقفها من التعددية الدينية، إلى الهدنة، إلى مقاومة الحركة و"خطابات التبجح"، وأخيرًا إلى مربط الفرس، إلى الأحداث الدائرة في سوريا الآن.
لقد حشا أبو خليل مقالته بكل تلك القضايا، حتى وإن لم تكن ذات صلة ضرورية بالموضوع السوري، الذي أراد منه اتهام «حماس» بالانتهازية، وكل قضية منها، تحتاج بسطًا واسعًا، ينجيها من الاختزال الانطباعي، والتورط في اللغة الاتهامية التي تعبر عن مشاعر أيديولوجية، واضطرابات نفسية، أكثر مما تعبر عن موقف وثيق الصلة بالوقائع.
كثرة القضايا التي طرحها بمضمون تهريجي، وبلغة عدوانية، تتطلب ردًا فيه بعض التحليل لشخصيته المضطربة، التي يجتمع فيها الاضطراب النفسي، من نرجسية مصطدمة بخيبة الإنجاز الذاتي، ومرارة الواقع الذي يكذب كثيرًا من الأوهام المتضخمة، مع الاضطرابات التي تخلقها الثقافة الشيوعية الفاشية، والعداء المرضي للإسلاميين، والذي يفتك بصاحبه فيتلف بقية قدراته الذهنية حينما يتقدم الإسلاميون –كما هو حاصل- بينما يتضاءل رصيد أوهامه في الواقع إلى ما يُعجِز أحدث االمَجَاهِر الكاشفة عن المخلوقات الصغيرة جدًا عن رؤيته.
وإذا كان ما عُرض يكفي في بيان تناقضات أبو خليل، إلا أنها أكثر من أن يحتملها مقام مهما اتسع، خاصة مع مكابرته المكشوفة، التي لا تتيح له التراجع بشرف –كأي مثقف محترم- عن رأي سابق له، ثبت خطؤه، وهو الأمر الذي لا يجعل من وليد جنبلاط مثلًا له، وإنما يجعل من أبو خليل نفسه مثلًا لحالة مركبة عجيبة من التناقض الفج، والكذب الأرعن، والتذبذب الوقح، الذي لا ينظمه إلا خيطين متلازمين: (غرور شخصي، وكراهية عميقة للإسلاميين).
ومع ذلك، قد يفيد أبو خليل -ومن انقلب على نفسه، وصار يستخدم نفس الخطاب في هجاء الثورات لمجرد صعودها بالإسلاميين، ما يكشف عن خيبة أوهامه، وفي هجاء حركة «حماس» لانحيازها لنفس القضية التي تقاتل لأجلها، أي قضية الحرية التي لا تتجزأ، وليس لها إلا ميزان واحد- أن تناقش بعض القضايا التي أثارها بشكل متعسف واختزالي.
فقد أثار دخول «حماس» في السلطة، بعد فوزها في الانتخابات التشريعية، زاعمًا تارة أنها لم تحدد موقفًا من أوسلو، وقائلًا تارة أخرى، أنها رفضت أوسلو بكلام صريح! لكنها رجعت وقبلت الدخول في الانتخابات على أساسه، وعلى ما في هذه الصيغة من افتقار للتماسك لقيامها على تناقض فج كما هو واضح، فإنها لم تراع، حقيقة أن حماس قاطعت السلطة عشر سنوات، ولم تدخلها إلا بعد تغير الوقائع من بعد انتفاضة الأقصى لصالح المقاومة التي تشكل «حماس» فصيلها الأساس، على أساس من الموازنة بين مكاسب المقاطعة التي جربت، والخسائرة المؤكدة من جراء المقاطعة، حيث يراد من صندوق الاقتراع أن يمنح الشرعية للبرنامج السياسي، والتقرير في المصير الفلسطيني، ومع أن هذا الخيار، كان إشكاليًا داخل حماس نفسها، ولم تخل نتائجه من أزمات كبيرة، فإن تقييمه لا يكون بهذا الشكل الاعتباطي.
وتكفي الإشارة إلى أنه وبعد دخول «حماس» في الانتخابات، خاضت عدة عمليات من داخل قطاع غزة، وتصدت لعشرات التوغلات والاجتياحات الصغيرة والكبيرة، استشهد فيها العديد من قادة الحركة وأبنائهم، واحتفظت بجندي أسير داخل فلسطين، وتحديدًا داخل قطاع غزة الذي لا يجهل أبو خليل صغر مساحته وانكشافه للاحتلال، فترة طالت خمس سنوات، لأول مرة في تاريخ الصراع مع الاحتلال، وخاضت حربًا قدمت فيها العشرات من أبنائها، لم ترفع فيها راية بيضاء، ولم تنته باتفاق يسلم للاحتلال بمطالبه التي لم ينجح بتنفيذها بالحرب، كما حصل عقب حرب تموز في لبنان بالقرار الأممي 1701، طالما أن أبو خليل مغرم بجعل «حزب الله» مثلًا!
ومثل أبو خليل، وهو يزاود على هذه الحركة، يجهل أن كل نوابها ووزرائها في الضفة الغربية، سجنوا لدى الاحتلال، بعد فوزهم أو تنصيبهم، أكثر من العمر الافتراضي للمجلس التشريعي نفسه، ويجهل، أبو خليل، أن حرية التجمع والعمل والإعداد للمقاومة في غزة مكفولة لكل الفصائل، وهو إذ يحمّل «حماس» مسؤولية كل الخلل الذي يعتري أداء المقاومة الفلسطينية، يتجاهل تعدد فصائل المقاومة، قياسًا بانفراد «حزب الله» بساحة جنوب لبنان، والفروقات الجوهرية بين كل من قطاع غزة والضفة الغربية من جهة، ولبنان من جهة أخرى، من حيث حرية تحرك «حزب الله» على أرض محررة، وسهولة دعمه وإمداده من إيران وسورية، وهو ما لا يتوفر للضفة أو القطاع كما لا يخفى على بصير! فضلًا عن اختلافات جوهرية في الجغرافيا والتضاريس.
وأبو خليل يتحدث عن الهدنة، في مقارنة مزرية ومعيبة بين مقاومة «حزب الله» ومقاومة «حماس»، جاعلًا مقاومة «حزب الله» أفضل ما أُنتج ضد "إسرائيل" منذ حرب عام 1948، وهو بمثل هذه المقارنة لا يعيّر «حماس» وحدها، لأنها وببساطة لا تنفرد بساحة المقاومة كما سلف، وإنما الشعب الفلسطيني كله، ومع ذلك، فهي مقارنة بائسة حين الحديث عن الهدنة، فعلى الأقل ومنذ حرب تموز إلى اليوم، أي ما يزيد على ست سنوات، لم يطلق «حزب الله» رصاصة واحدة على الاحتلال، حتى أثناء الحرب على غزة، بينما بقي قطاع غزة –من بعد الحرب التي أقر أبو خليل بصمود «حماس» فيها- ساحة لعدد من المواجهات الواسعة، التي اشتركت «حماس» في بعضها.
ومع تمادي أبو خليل، في بخس «حماس» مقاومتها، حينما قصرها على "العمليات الانتحارية"، متورطًا في التصنيف "الإسرائيلي" لقتلاه ما بين مدني وعسكري، كاشفًا عن جهل مريع بعمليات الأنفاق، واقتحام المستوطنات والمعسكرات، والكمائن، وتاريخها الحافل في خطف الجنود منذ العام 1989، ذهب إلى أن بيانات «حماس» "المتبجحة" لا تتناسب مع أفعالها، وهو زعم يطال كل مقاومة الشعب الفلسطيني، ويناسب ذلك الجهل بذلك التاريخ الحافل في المقاومة، لكنه أيضًا ناتج عن قصور تحليلي، وهو يقارن «حماس» بـ «حزب الله»، يغفل أن «حماس» تقاوم بكليتها هي وشعبها تحت الاحتلال، مما يعرضها لتفكك بناها بشكل كامل، كما حصل في عملية «السور الواقي» التي قام بها الاحتلال بعد اجتياح الضفة الغربية في العام 2002، بخلاف «حزب الله» الذي ينطلق من أرض محررة، قبل تحرير الجنوب، ويعمل اليوم بالكامل على أرض محررة، وبدعم إيراني-سوري مباشر دون أي عوائق جغرافية أو سياسية.
فطالما أن «حماس» مؤمنة، باستمرار الصراع، فزمن الصراع غير محدود، ولا يلزمها أن تنفذ ما تهدد به في حينه، هذا وفي سياق المقارنة مع «حزب الله» كما أراد أبو خليل، يبدو ضروريًا أن يعلم أن «حزب الله» ومنذ أربع سنوات يهدد بالانتقام لمقتل قائده العسكري عماد معنية الذي اغتيل في دمشق في العام 2008، وهو لا يزال يهدد باحتلال الجليل، وإيقاع الآلاف من القتلى في الاحتلال، فإن لم تكن هذه تهديدات قبل الأفعال فماذا تكون؟؟ بل تهديدات منذ سنوات قد حان أوناها بلا فعل فماذا تكون؟؟
سوف يكابر أبو خليل، ويقول: أن الحزب يحق له أن يتبجح بعد أن أنجز، وقد قالها في تويتر، وهذا ينسف زعمه من الأساس أن الحزب يفعل ولا يقول، وهذا ما يستدعي قياس إنجاز الحزب لإنجاز المقاومة الفلسطينية التي أثخنت في الاحتلال في انتفاضة الأقصى وحدها، أكثر مما أثخن «حزب الله» منذ تأسيسه في العام 1982، وحررت قطاع غزة، وتمكنت من قيادة صفقة تبادل أسرى مشرفة نجحت فيما فشلت فيه وعود «حزب الله» تجاه الأسرى الفلسطينيين، وحافظت على ذاتها وجهوزيتها رغم محدودية الإمكانات وصعوبة الحصول على الإمداد وهي واقعة تحت الاحتلال، وحتى هذا الإمداد الذي لا يُنكر لم يُقدم لها إلا بعد أن أسست نفسها، وقادت مقاومتها، بقدراتها الذاتية تمامًا، بخلاف «حزب الله» الذي انشأته إيران، ولم تزل ترعاه إلى اليوم، وهو لا يخفي أنه جزء من دولة "ولي أمر المسلمين"! فـ «حماس» ليست فرقة في جيش دولة إقليمية كبرى، في قاعدة متقدمة لها، كي تجرى لها مثل هذه المقارنة!
ومثل هذه المقارنة ليست فعلًا حميدًا، مهما بلغ الخلاف مع «حزب الله» في بعض مواقفه الأخيرة وما أنتجته من خطابات إشكالية، فتحري العدل والصدق والإنصاف، مما لا ينبغي ألا ينفك عن الشخصية المؤمنة، أو المقاومة للظلم والعدوان، وغير أبو خليل ممن اهتدى بغير هدى لينين، يبقى مستحضرًا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، فمقاومة «حزب الله» مشهودة، وإمكاناته التي يهدد بها غير منكرة، والمقاومة الفلسطينية، بما في ذلك «حماس»، تعيش أزمات عميقة، وخياراتها السياسية محل انتقاد، وخطابها يحتاج كثيرًا من المراجعة، لكن المقاربة الصالحة لتناول مشاكل المقاومة الفلسطينية، ليست تلك التي لجأ إليها أبو خليل.
فأستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، هو الذي ولج إلى الموضوع من باب المزايدة، والمقارنة بـ «حزب الله»، وليته فعل ذلك لأجل نقد المقاومة الفلسطينية وترشيدها بدافع النصح والغيرة، وإنما لم يكن له من هم سوى التنفيس عن بعض كرهه للإسلاميين، بشتم واحدة من أهم تجلياتهم، وهي «حماس»، ولعل في مقاومة هذه الحركة ما يزيده غلا على الإسلاميين، لكراهيته أن يراهم في موضوع مشرف، لا يرى فيه مثله ومن يحمل فكره، وعلى هذا؛ أفيحق لـ «حزب الله» أن يراعي الاعتبارات اللبنانية الداخلية، أو أي اعتبار آخر خاص به، ويرضخ لقرار أممي أراده "الإسرائيلي"، ولا ينفذ تهديداته المكرورة بالانتقام لقائده العسكري المقتول منذ أربع سنوات، ويمتنع عن أي فعل مقاوم ظاهر ومؤازر للفلسطينيين منذ ست سنوات، حتى أثناء العدوان على غزة، ولا يحق لـ «حماس»، وغيرها من الفصائل الفلسطينية، أن تراعي ظروفها الأصعب والأكثر حرجًا من ظروف «حزب الله»، فتهدء من فعلها المقاوم، متحينة فرصة أنسب؟
وليتخيل من شاء أن يتخيل، لو أن «حماس» هددت بقتل عشرات الآلاف ولم تفعل، أو هددت بتحرير النقب ولم تفعل، وبقيت تردد مثل هذا الكلام سنوات، كيف سيُخرِج أبو خليل كل البذاءة المحشوة في جوفه؟ أفما كان به جديرًا إذن، أن يقول للأمين العام لـ «حزب الله»، طالما أنك قادر على تحرير جزء عزيز من فلسطين، قد هُجِّر منه اللاجؤون إليك، فلم لا تفعل؟ وأي شيء تنتظر؟ ألا يكفي احتلال الجليل سببًا لتحريره؟ أم أن تحريره لا يكون إلا ردًا على عدوان على جنوب لبنان، أو استجابة لأمر الولي الفقيه؟
ومن الخلط العجيب الذي أتى به أبو خليل، حديثه عن موقف «حماس» من اليهود، واستشهاد ميثاقها بـ «بروتوكولات حكماء صهيون» المزورة، زاعمًا أنها أصدرت خطابًا يفتقر إلى احترام المسيحيين، متحدثًا عن خطاب مذهبي في جسم الحركة، وهذا الخلط فيه حق وباطل، فمن الباطل ما افتراه عن خطاب يفتقر إلى احترام المسيحيين، أما الحق؛ فهو قاصر عن إدراك تطور الحركة، كأي جماعة بشرية، متجاوزة الكثير مما في ميثاقها، فهي على صعيد الخطاب الرسمي اليوم تؤكد أن عداءها للصهاينة المحتلين، وليس لليهود، بل إن هذا الخطاب مبكر جدًا ومتزامن مع الميثاق الذي لم يخرج في ظروف صحية وسليمة، وهو ما يستدعي إعادة صياغته، كما أعلنت «حماس» أكثر من مرة.
أما حديثه عن الحقد المذهبي الرائج بين الفلسطينيين، فهو لا يأخذ بالاعتبار رواج الخطاب الطائفي في المنطقة كلها، بما في ذلك لدى «حزب الله» الذي جعله مثلًا، فالفصائل الفلسطينية لا تستطيع أن تحجز عن الشعب الفلسطيني هذا السيل المتدفق من خلال الفضائيات والتقنيات الحديثة، كما أن تلك الفصائل –خاصة «فتح» و«حماس» اللتين ذكرهما- لا تتبنيان ثقافة حزبية صارمة تلزم الأتباع والعناصر، فالخطاب الإسلامي عند «حماس» واسع، وفي إطاره يتعرض الفرد لمصادر تأثير مختلفة ومتباينة.
وعلى أية حال؛ فإن المسألة المذهبية أكثر تعقيدًا من أن تطرح بهذا التسطيح، الذي يورط صاحبها في خطاب طائفي من حيث أراد العكس، فما شأن الملحد في تحديد المسلم من غير المسلم، وهو لا يؤمن برب السنة والشيعة على السواء؟ وبأي منطق يريد أن يلزم المختلفين عقديًا برؤية بعضهم متساوين في الإسلام أو الإيمان؟!
أما علاقة «حماس» بدول الخليج، وبصرف النظر عن الأكاذيب، أو المعلومات التي يسوقها أبو خليل بلا عزو محدد، فلا «حماس» ولا غيرها ملزم أن يتبنى رؤيته للعلاقة مع تلك الدول، ولا مع غيرها، ومن ناحية أخرى، فإن منهج الحركة الذي قامت عليه، ألا تحمّل نفسها فوق طاقتها، في عداءات أو صراعات على حساب ثغرها الفلسطيني الذي تحملت أمانته، وأن تكسب أي دعم لقضيتها، وتحيد، أو تخفف من عداء أي جهة معادية، ولذا فإنها صبرت على كثير من الأذى الكبير والعميق الذي تعرضت له من بعض الدول التي يزعم أبو خليل أن «حماس» تخطب ودها.
والعلاقة مع دول الخليج، ليست مدخلًا خاصًا بـ أسعد أبو خليل للطعن في «حماس»، فمع الأسف، هذا هو الخطاب الذي يعتمده "محور الممانعة" اليوم في الدفاع عن النظام السوري، بل إن كل ما ذكره أبو خليل من طعن في «حماس»، وفوق ذلك تشكيك في الثورات والإسلاميين الذين صعدت بهم لواجهة المشهد السياسي، هو عين المفردات التي يقترفها أنصار النظام السوري، بما في ذلك الصحيفة التي يكتب فيها أبو خليل، إلى درجة تبني دعاوى فلول مبارك الكنز الاستراتيجي لـ "إسرائيل"، وكأن المقاومة والممانعة لم تكن ضد "إسرائيل" وإنما لأجل النظام السوري! فإذا كان هذا الانقلاب وصل هذا الحد، هل يكون ضروريًا التذكير بعلاقة «حزب الله» السابقة بقطر التي أسهمت في إعمار الجنوب؟! والتي كانت لقناتها الفضائية البرامج واللقاءات الحصرية من طرف «حزب الله»؟! وكيف لو جرت مناقشة تحالفات «حزب الله» الداخلية الحالية والسابقة؟!
ومنهج «حماس» في إقامة علاقاتها مع كل الدول، هو نفس المنهج الذي أقامت به علاقاتها مع إيران وسوريا، فهي وإن لم ترفض دعم الدولتين الأخيرتين، ولم تنكر فضلهما، لم تتخل عن سعيها لتوسيع تحالفاتها، أو الحد من عداء بعض الأطراف لها، وهذا الأمر يحسب لـ «حماس» من عدة وجوه؛ فلا كانت تحالفاتها السابقة على حساب برنامجها، أو خطها الفكري، ولا قدمت مصالحها، بعد الثورة السورية على مبادئ الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، فهي حين كانت في سوريا لم تتحول إلى كتيبة في الحرس الثوري الإيراني، ولا تبنت أدبيات وشعارات الثورة الإيرانية التي تبنتها حتى بعض الفصائل الفلسطينية في فترة من الزمن، ولا جارت النظام السوري وأقرت بعدالة القرارات الدولية، أو المبادرة العربية، كأساس لحل القضية الفلسطينية.
فهي كانت مستقلة الفكر، والقرار، قبل الثورة السورية وبعدها، فليست مشكلتها أن يتفاجأ أحد بهذه الاستقلالية، والنظرة الخاصة للذات، فيسميها انتهازية، محتجًا عليها بموقف «حزب الله» غير المتذبذب، فما أعجب إذن تعريف الانتهازية! فإذا لم يكن الانحياز للقتل، وسفك الدماء، وإزهاق الأرواح، وإنكار مظلومية شعب، والتطوع لأجل الدفاع عن آلة القتل، لأجل الطائفة، أو استجابة للولي الفقيه، أو لأجل المصالح، هو الانتهازية، فما هي الانتهازية إذن؟!
والعجيب؛ أن من يطالب «حماس» بتحديد موقف، مما يجري في سوريا، من لا موقف له، أي أسعد أبو خليل، الذي يشتم الطرفين، بنفس القدر، جاهدًا أن يجعل أي خطأ للمعارضة السورية، أو الثوار في الداخل، بنفس حجم أفعال النظام أو أكثر، فهو يشتم الطرفين، ويساوي بينهما، فلم يسلم منه أحد، وإن كان شتمه للثورة ومقاتليها في الداخل ومعارضتها في الخارج أكثر من شتمه للنظام، فما هو موقفه؟ فلا هو مع النظام ولا هو مع الثورة؟ ولا هو مع بقية الشعب الذي يقال أنه لا يزال مواليًا للنظام؟ ولا مع البقية الأخرى الثائرة عليه؟ فلعل الشعب الذي يناصره في ثورته لم يهبط من المريخ إلى سوريا بعد! لكنه لا يخفى على حصيف أن هذا الخطاب المراوغ انحياز صرف للنظام، وهنا يتبدى المرض النفسي حينما يعز على الذات المضطربة نرجسيًا أن تنحاز لأحد بشكل واضح، والانتهازية حينما يخجل "المثقف الثوري الذي اختار ماركس، واهتدى بهدي لينين، وباكونين" أن يعلن انحيازه لنظام عربي تقليدي.
والأعجب، وهو إذ ينتقد «حزب الله» لعدم ظهور إشارات أو تعبيرات منه احترامًا لضحايا النظام، يتمنى لو أن «حزب الله» لم يناصر النظام السوري "القمعي في غمرة القتل" على حد تعبيره! أي أنه تمنى لو أن «حزب الله» أخذ نفس موقف «حماس»! فـ «حماس»؛ لم تناصر النظام السوري في غمرة القتل، وبكل تأكيد، قياسًا على ما يكتبه أبو خليل من شتم للثورة ومن فيها ومن يناصرها، لا يريد للحزب أن يناصر الثورة أيضًا! فهو إما أنه يريد من الحزب شتم الطرفين على طريقته، أو الصمت على طريقة «حماس»، فمن أي وجه يزاود على «حماس» إذن؟!
وهنا لا بد من الإشارة، إلى أن أبو خليل، ينتقد «حزب الله» بين الفينة والأخرى، لنفس الأسباب المتعلقة باضطراباته النفسية، لكنه نقد مخفف، أقرب إلى النصح المحب، والعتب الغيور، وهذا ظاهر هنا، حينما لا يستحق ضحايا القتل سوى إشارات وعلامات احترام! وحينما لا يكون تغليب المصالح والطائفة وأمر الولي الفقيه على دماء المدنيين والأبرياء انتهازية!
ألم تغلب «حماس» هنا، مصلحة المقاومة ضد العدو الذي لا يختلف على عدائه أحد، بإخراج هذه المقاومة من أي صراع آخر، مهما كان فيه الحق واضحًا أو ملتبسًا؟ وهل «حماس»، وأي فصيل فلسطيني، دولة ذات إمكانات حرة، أم جزء من شعب نصفه تحت الاحتلال المباشر، ونصفه في الشتات؟ فبأي حق تحمل «حماس» فوق طاقتها بالانحياز الصارخ والمباشر لأي طرف في أي صراع عربي داخلي؟ وهل من المروءة أن تحمل «حماس» تبعات مواقفها شعبها اللاجئ في هذا البلد أو ذاك؟ ومع ذلك، وإن كانت قد نأت «حماس» بنفسها لهذه الأسباب، فإنه لم يكن خافيًا انحيازها لمطالب الشعب المشروعة، ولم تمنعها مصالحها مع النظام السوري وداعميه من بيان ذلك، إلى درجة مغادرة قيادتها دمشق، بخلاف الجهل المزري الذي يتخبط فيه أبو خليل ويظنه يقينًا! مستدلًا بوفاة أحد كوادر الحركة في سوريا، غافلًا عن أن هذه الحركة التي يشكل كوادرها جزء أساسيًا من نسيج الشعب الفلسطيني في سوريا، لا يمكنها أن تغادر بكوادرها وعناصرها كلهم، لأسباب عملية تتعلق بالقدرة، ولأسباب تخص الحركة، فمغادرة قيادة المكتب السياسي لها دلالتها السياسية في الاعتراض على ما يجري في سوريا، بينما لا يمكن لحركة مسؤولة أن تفرغ أماكن الوجود الفلسطيني من جميع عناصرها وكوادرها الذين لهم مهمات أخرى، علمًا بأن كادرها الذي توفي في سوريا لم يكن من قياداتها السياسية، وكان قد عاد إلى سوريا لأسباب عائلية –ربما- من بعد مغادرته إلى الأردن.
ربما؛ يكون الأسلوب الذي ينهجه أبو خليل، في تعقيباته على الآخرين والأحداث، أو في عدوانيته للإسلاميين، يليق بشيوعيته ومشاكله النفسيه، لكنه –وإن كانت له دوافعه وأسبابه الخاصة- لا يزيد على كونه مجرد كاتب في الآلة الإعلامية لأنصار النظام السوري، فما يقوله، هو عين ما يقولنه، وقد وصل الحال بأنصار "المقاومة والممانعة" أن يناصروا أيتام مبارك، لأن الذين جاءت بهم الثورة بعد مبارك، أيدوا الثورة في سوريا، ولأنهم إسلاميون، وإخوان على وجه الخصوص، صار لازمًا الطعن في حماس والتشكيك بها، وليت الأمر توقف عند هذا الحد، فقد بلغ الانحدار الإنساني غاية قعر الشيطان، فامرأة مثلية يطاردها سلفي في خبر مكذوب في صحف الفلول، أطهر عندهم، من دماء الآلاف في سوريا!
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية