درس الانسحاب من غزة ... بقلم : د. محمد إبراهيم المدهون

الجمعة 04 أكتوبر 2013

درس الانسحاب من غزة

د. محمد إبراهيم المدهون

ثماني سنوات مضت على انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة من جانب واحد تحت مسمى خطة الانفصال، والذي تم في سبتمبر 2005م. ومثَل مشهد تخريب المستوطنات وتفكيكها وهذا الانكفاء والانسحاب المُذل تجسيداً لقوله تعالى: "هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ" [الحشر: 2].

لم يكن هذا الانسحاب الأحادي الجانب مكرمة احتلالية لقطاع غزة, شكَل العمل الفدائي المقاوم والمتطور دليلاً على فشل ذريع لإستراتيجية الاحتلال في مواجهة حماس وحلفائها في أذرع المقاومة، وتحول التفوق النوعي العسكري الصهيوني إلى "قوة محايدة" وأخلّت المقاومة ببنية الردع العسكري وأحبطت نظرية الأمن الصهيوني وتم إحلال مفهوم "المجتمع المذعور" داخل تجمعات الاستيطان في قطاع غزة.

ولقد مثلت المقاومة في غزة حينها نموذجاً لروح التضحية والفداء العالية والتي أثمرت بلغة الأرقام -وفق الإحصاءات الإسرائيلية- مقتل (1135) إسرائيلياً بينهم (112) جنديا في الفترة من 2000-2005م، وأصيب العشرات بجراح، وكان العام 2004م الذي سبق الانسحاب الأكثر فداحةً حيث قتل (140) إسرائيليا ووقعت خلال تلك الفترة (12) عملية فدائية كبرى قتل فيها (59) إسرائيلياً.

حينها اعترف قادة الاحتلال بالمقاومة الفدائية فقال (موفاز) "إن العمليات المسلحة التي عرفها الجيش الإٍسرائيلي في قطاع غزة لا تشبه أي حرب خاضتها إسرائيل قبل ذلك"، وقال (باراك) "إن الفلسطينيين أضحوا مثل الوسادة كلما وجهت لهم لكمة كلما ارتدوا بقوة"، وقال (روتشيليد) "إن الحديث عن تقليص قدرات حماس هو أمر ليس فقط مبالغ فيه بل ومحض خيال"، وقال (هابر) "لا يوجد مطلقاً حل عسكري للعمليات المسلحة من قطاع غزة".

بعد الانسحاب تواترت اعترافات القادة الإسرائيليين العسكريين والمفكرين بأن الانسحاب مثل تراجعاً واضحاً للمشروع الصهيوني وانتصاراً لخيار حماس الذي تجند حوله الشعب الفلسطيني فقال نتنياهو: "فك الارتباط يمثل انتصاراً هاماً لحماس وفكرها الذي لم يكن له مثيل في مواجهات دولة إسرائيل"، وقال يعالون: "سنجد أنفسنا نواجه (مملكة إرهاب)"، وقال ديختر: "لقد حقق الفلسطينيون إنجازاً كبيراً بإخلاء قطاع غزة وبدون مقابل سياسي"، وقال غازيت: "على إسرائيل أن تتعلم الدرس من اضطرارها لفك الارتباط عن غزة وهو أنه عاجلاً أم آجلاً ستكون مضطرة للجلاء عن كافة الأراضي المحتلة"، وقال لاندو: "إن الانسحاب من غزة في ظل استمرار العمليات المسلحة يدل على انتصار حماس وهزيمة تاريخية لإسرائيل"، وقال زعيم المستوطنين هندل: "قالوا لنا دائماً دعوا الجيش ينتصر لكن حماس هي التي انتصرت"، بينما عقب الجنرال عميدرور: "إن قوة الردع الإسرائيلية في مواجهة حماس أصابها عطب بعد تنفيذ الانسحاب من غزة".

وبعد الانسحاب التاريخي من قطاع غزة ارتفعت أصوات صهيونية عسكرية تحذر من تزايد المخاطر الأمنية على الحدود خلف "خط الهدنة"، وجاءت التهديدات من عدة مصادر عسكرية وأمنية، فقد أكد مراقبون إسرائيليون أن المستوطنات الواقعة داخل الأراضي المحتلة عام 1948، أصبحت مكشوفة أمام الصواريخ المحلية الصنع. وبناءً على ذلك زودت الأجهزة الأمنية آلاف منازل المستوطنين بوسائل حماية، إضافة إلى وضع ملاجئ بمواصلات خاصة، مما دعا وزارة الدفاع لأن تقرر رصد مبلغ خمسين مليون دولار لحماية وتحصين المستوطنات المحيطة بقطاع غزة من الصواريخ، ومن الأنفاق المفخخة.

كما أقام الجيش خط تحسين مطور، يسمى "هوبرس ب"، وهو نوع من "الحزام الأمني" بمدى يتراوح بين ثمانين مترا ومائتي متر عن جدار الفصل الحالي، وفي هذه المنطقة يعمل الأمن الإسرائيلي لمنع وصول تقنية الصواريخ إلى الضفة الغربية الملاصقة للمدن الإسرائيلية الكبرى، لما يشكله ذلك من تهديد إستراتيجي حقيقي للأمن. وعلى هذا الصعيد أجرت الشرطة الإسرائيلية بالتعاون مع الجيش وهيئة الإسعاف والإطفاء تدريباً عسكرياً مشتركاً لمحاكاة احتمال قيام حماس في الضفة، بإطلاق صواريخ ضد أهداف إسرائيلية.

من جهته اختار جهاز الأمن العام "الشاباك" أن يكشفعن استغلال حركة حماس في قطاع غزة لأعوام ما بعد الانسحاب لنقل المزيد من الخبرات العسكرية، وتنفيذ عدد من العمليات على شكل إطلاق النار ضد سيارات المستوطنين، وزرع عبوات ناسفة باتجاه حافلات إسرائيلية، والتخطيط لخطف الجنود وأسلحتهم، وجمع معلومات حول أماكن استجمام بغرض تنفيذ عمليات، واستخدام أنماط جديدة من العبوات الجانبية، واتباع آليات جديدة لصنع وتدفق السلاح، وتوفير عدد لا بأس به من خطوط توريد السلاح إلى قطاع غزة، وتطوير التصنيع المتعدد الأوجه، وتعليم وتدريب المقاتلين على استخدام السلاح وكيفية الحفاظ عليه وتخزينه، وزيادة التجارب حتى تصل إلى الدرجة المطلوبة من السلاح والعبوات والقذائف والصواريخ، وتطوير مدى صواريخ القسام، وزيادة وتنويع المخزون الإستراتيجي من الذخيرة بكافة أنواعها، بالإضافة إلى تبادل الأفكار في تصنيع الأسلحة بين الفصائل حتى غدا القسام أقرب إلى الجيش النظامي المدرب والمنظم والقوي.

وبعد الانسحاب تركزت مصادر معلومات أجهزة المخابرات الإسرائيلية على العملاء في قطاع غزة الذين تتم ملاحقتهم بشكل منتظم وفاعل من قبل وزارة الداخلية، ووسائل التكنولوجيا الحديثة وخاصة الاتصالات. علاوة على ذلك, فإن طبيعة الميدان العسكري في القطاع اختلف بصورة كبيرة عما كان الوضع عليه قبل عام 2005م، والجيش الإسرائيلي يعمل بخطة "متعددة الطبقات"، تتكون من "الدفاع والهجوم والاستخبارات"، ولديها أجنحة معروفة وأخرى سرية، وقام الجيش بتوحيد كل وسائله الاستخبارية، والاعتراض، وإطلاق النار، والاكتشاف والإصابة، والسيطرة في قبضة واحدة، ووضع محطات إنذار مبكر للصواريخ المنطلقة من غزة باتجاه الأراضي المحتلة وقبة حديدية، مع إبقاء قطاع غزة تحت المراقبة الدائمة من قبل الطائرات الاستطلاعية، ولذلك وقع الكيان الصهيوني اتفاقية لشراء كمية من هذه الطائرات بصفقة قدرت قيمتها بخمسين مليون دولار، ونشر العديد من الوحدات والكتائب العسكرية على طول الحدود الشرقية، واستخدام الطائرات المقاتلة من طراز إف16 بصورة مكثفة، وقيام الجيش بنشر وحدات عسكرية من سلاح المدفعية في محيط القطاع، وتنفيذ عمليات اجتياح محدودة، ولم يستبعد نائب رئيس هيئة الأركان السابق الجنرال "موشيه كابلينسكي" وآخرون شن عمليات برية في قطاع غزة، مع استمرار الأجهزة الأمنية لسياسة الاغتيال والتصفية المباشرة.

مثَل الانسحاب من قطاع غزة بارقة أمل فلسطيني بإمكانية الانسحاب الصهيوني من أراضٍ فلسطينية إضافية، كما مثّل هذا الانسحاب امتداداً للانسحاب الصهيوني من جنوب لبنان في مايو/أيار2000م والذي أضاء حينها طريقا جديدا للفلسطينيين في ظل فشل كامب ديفيد وانكفاء خيار المفاوضات وسقوط أوسلو وحصار عرفات بانطلاق انتفاضة الأقصى، كما رسخ الانسحاب منهجاً فلسطينياً جديداً فعالاً ومجدياً وهو المقاومة بكافة أشكالها وعلى رأسها العمل العسكري، وأثبت هذا الاندحار الصهيوني عن توفر خيارات أمام الشعب الفلسطيني يمكن الاتكاء عليها ومنحها فرصة إضافية لتحرير أجزاء إضافية من أرض فلسطين.

كما منح هذا الانسحاب ولأول مرة أرضاً فلسطينية خالصة للشعب الفلسطيني يمكن أن يطلق من خلالها مشروعه الذي يريد بعيداً عن غول الاستيطان وسيطرة الجيش الصهيوني والالتزامات بالتفاهمات والاتفاقات الموقعة.

وقد مثَل الانسحاب من قطاع غزة بوابة لحركة حماس كحركة مقاومة للدخول في انتخابات عام 2006م، وما مثلته الانتخابات ونتائجها بعد ذلك من علامة فارقة في التاريخ الفلسطيني المعاصر، وتحول جدي على مستوى التاريخ من نجاح إلى آخر.

وكان الانسحاب الإسرائيلي انتصاراً لخط حماس والمقاومة بشكل فائق وبدون تقديم أثمان سياسية مقابل هذه الانسحابات، وفي منطق الأشياء لاحقاً ما كانت حماس ستستمر في الحكم بعد فوزها في الانتخابات لو لم يكن الانسحاب من غزة الذي مثل حاضنة حماس ومشروعها ولتحقق الانقلاب على نتائج الانتخابات في العام 2007م في غزة كما تحقق في الضفة الغربية نتيجة سطوة الاحتلال وحضور واستقواء أطراف الانقلاب به، وقد مثل الإنسحاب وما تبعه من تثبيت نموذج غزة المحررة المنتصرة تحقيق انتصارات تاريخية تُحسب لغزة ومقاومتها سواء ما حدث من انتصار على الحصار وثبات أسطوري في ملحمة الفرقان الخالدة، وما كان من انجاز استراتيجي في ملحمة وفاء الأحرار، والإفراج عن آلاف الأسرى في صفقة شاليط واختطافه في غزة لمدة تزيد عن 5 سنوات ونصف، وما كان كذلك في حجارة السجيل حيث تضرب غزة تل أبيب وتُذل الكيان الصهيوني.

وكان من الممكن أن يمثل الانسحاب من قطاع غزة تحولاً فلسطينياً داخلياً عن النظرة الفلسطينية الضيقة إلى صياغة رؤية فلسطينية موحدة على أساس من إجماع وطني بعد توفر قطعة أرض فلسطينية محررة يمكن الانطلاق منها برؤية وطنية جامعة وشاملة، ولكن للأسف الشديد تكرس الانقسام الفلسطيني، وربما هذه لتباين فلسفة التحرير ومناهج العمل بين فصائل العمل الوطني الفلسطيني.

ورغم ذلك بعد الانسحاب ما زالت غزة بمساحتها الضيقة رغم الحرب والحصار والمقاطعة تمثل مشروع نواة الدولة المستقلة حقاً والتي ينبغي أن تتزايد وتنمو من أجل تثبت مشروع التحرير الذي تسنده نواة الدولة الفلسطينية المفروضة رغماً عن الاحتلال وبرامجه، وعلى الجانب الآخر يمثل ذلك حالة تحد فلسطيني ذاتي في النجاح في تقديم نموذج مشروع دولة ناجحة قادرة على الصمود والثبات والنجاح، وفي نفس الوقت قادرة على إرهاق المحتل من أجل زيادة الرقعة الجغرافية لهذه الدولة التي تولد في عملية قيصرية تحت عين الاحتلال وسمعه, تماماً كما نشأ موسى عليه السلام في بيت فرعون ومن ثم كان غرق فرعون وجنوده على يد موسى والمستضعفين معه.

قال تعالى: "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ" [القصص: 5-9
جبل يدعى حماس
سأموت ولكن لن ارحل
يا رب انت العالم
يوم تجثو كل أمّــة
علم .. مقاومة .. حرية

الشبكات الاجتماعية

تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية

القائمة البريدية