دروس من محنة الشيخ رائد صلاح
بداية، لعل التوصيف الأكثر ملاءمة للتعليق على حادثة اعتقال الشيخ رائد صلاح هو منحة وليس محنة؛ وذلك لأن شيخ الأقصى كان حتى وهو يساق لسجنه إنما يسجل انتصاراً معنوياً فريداً على سجانيه وأعدائه الذين يأملون أن يكون غيابه جسداً عن الأقصى مقدمة لتغييب قضية القدس كلها عن وعي الفلسطينيين والأمة بأسرها.
لكن ما يجهله الاحتلال أو يتجاهله هو أن مكمن قوة الشيخ رائد صلاح ليس في ربطه قضية المسرى والدفاع عنه بشخصه وحضوره، إنما في نجاحه بتحشيد آلاف بل ملايين الهمم للمنافحة عنها واستحضار ذلك الشعار القديم الجديد: الأقصى في خطر، وفي أن الرجل أسس لَبنات الدفاع عن الأقصى منذ زمن بعيد، حتى اشتد ساعد حماة الأقصى والمقدسات وغدوا موزعين على شتى بقاع الأرض وفي كل مكان وصله صوت الشيخ رائد الذي كان على الدوام يتقن عرض قضية الأقصى وشرح أبعاد المخاطر التي تتهدده، وتمكين حبه في كل النفوس التي كانت تعدّ الشيخ رائد الموجه والقائد والحامي الأول الذي يتقدم الصفوف، ويباشر بنفسه أعمال الترميم والرعاية ليس للأقصى وحسب بل لجميع المقدسات داخل الخط الأخضر، حيث قدمت الحركة الإسلامية فيها بقيادة الشيخ رائد الأنموذج الأمثل للحراك العملي المثمر الذي يتجاوز الإطار النظري العقيم في التعاطي مع شأن بوزن قضية الأقصى.
لذلك كله فقد تجاوزت رمزية الشيخ رائد كل فرضية وضعها الاحتلال وهو يطمح بجني ثمار تغييبه عن الواقع، فالقيادات الصادقة والمخلصة التي تحسن الزرع وتتقن البناء وتبدع في تمتين أساس عملها ستجني لاحقاً عماداً صلباً لا يهزه غياب قائد أو رحيل مؤسس، وهذه الحقيقة وعاها الشيخ رائد منذ استلامه زمام الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني التي تعد رمزاً غير متكرر تستلهم منه فنون الإبداع في صناعة جيل ممتد استطاع أن يقاوم طوفان التهويد وأن يحتفظ بهويته الإسلامية والفلسطينية، وأن يتعاظم في وعيه الانتماء لقضيته وخصوصاً ما يتصل بمقدساته ورموزه الدينية.
رسالة الشيخ رائد لم تعد حكراً عليه وحده، ولا حتى على رموز وأبناء الحركة الإسلامية في فلسطين، بل غدت ملء سمع ووعي كل ألوان الطيف الفلسطيني، وغدا الشيخ محل إجماع حقيقي ليس فقط لدى الفلسطينيين في مناطق الـ 48 ولا حتى لدى الفلسطيني في كل أماكن وجوده، بل كذلك لدى أبناء الأمة وأحرار العالم، وقد شاءت إرادة الله أن تجري رياح أسطول الحرية مؤخراً حاملة نتائجها الدليل على مكانة الشيخ رائد صلاح، وهو ما لمسه أي متابع بشكل جليّ حين حملت الأخبار الأولية أنباء عن استشهاد الشيخ في مجزرة الأسطول، فكانت مناسبة لمس معها الاحتلال قبل غيره وزن ومكانة الشيخ لدى مختلف أطياف الأمة، فكان أن التجأ إلى خياره المفلس الأخير بتغييب الشيخ خلف القضبان ردحاً من الزمن بهدف إماتة تفاعلات أثره وحبس الألق الروحي الذي غدا يجسده حضوره وينمو بشكل متعاظم.
لكن الشيخ رائد صلاح، القائد والرمز والمحفز للهمم سيظل العنوان الحاضر حتى وهو في سجنه، تماماً كما كانت رمزية الإمام الشيخ أحمد ياسين رحمه الله تغذي نفوس أبناء حركته من خلف القضبان رغم أنه اعتقل بعد نحو عام فقط على انطلاقة حماس، وكان اعتقاله عنواناً لمرحلة مقاومة عزّ نظيرها، فتغييب القائد اعتقالاً أو حتى اغتيالاً سيعلي من قيمة نهجه في نفوس الأتباع وسيحرض على التفاني في الدفاع عن قضية إنما تستلهم النور لمسيرتها من أعمار ودماء قادة ركبها.
إفرازات مثل هذه المعادلات قلما يدرك الاحتلال كنهها، فهو في غمرة حسبته المادية لسياساته المختلفة يسقط الجوانب المعنوية غير الموجودة أصلاً على أجندته، والتي لا يبصرها أيضاً على أجندة أعدائه، لكنه لا يلبث أن يلمس آثارها بعد حين، وهو ما حصل وشاهدناه عياناً في محنة الشيخ رائد الأخيرة، وما حملته كلماته الواثقة والمبصرة للغد وهو على بوابة سجنه، وما رددته الجموع التي ودعته معاهدة على استكمال مسيرته المظفرة، وهي مسيرة لم تبدأ بحمل همّ الدفاع عن الأقصى وحسب، ولم تنته بركوب البحر ميممة شطر غزة في رحلة كسر الحصار.
مسيرة الشيخ رائد ممتدة في عمق التاريخ، طويلة بعمر الرسالة المحمدية التي جسدت لنا نماذج انبلاج الفجر من رحم المحن والابتلاءات، وهي كذلك عظيمة بعظم من يحملون بيرقها وتصطفيهم محطات التمحيص، فلا يخلص منهم إلا من هو أهل لقيادة العصبة المرابطة المجاهدة، فقضية القدس وكل ما يماثلها ويدانيها أهمية ورفعة لا يفعّلها ولا يحمل شرف الدفاع عنها إلا أصحاب الهمم الكبار وأهل العقيدة الراسخة، لأن كل ما يقدم للقدس يبقى باهتا وبلا قيمة مقابل الفعل والبذل في الميدان، لذلك كله سطع نجم الشيخ رائد وصار مستعصياً على الأفول حتى حين تغيبه قضبان الأسر، فاستحق بجدارة لقب شيخ الأقصى، ولذلك أيضاً تلاشت الرموز الدخيلة على قضية المسرى وانمحى ذكرها والاحتفال بأثرها الوهمي، ومَحَقَ محكُّ الفعل دعاياتها المفتعلة وادعاءاتها الباطلة الوصل بالأقصى وحمل همّه، وهي أبعد ما تكون عنه!
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية