رئيس المكتب السياسي خالد مشعل يتحدث عن حماس
هي جولة في فكر الرجل الذي تولى مسؤولية القيادة في واحدة من أشهر حركات المقاومة المعاصرة .
منذ عام 1996 شغل خالد مشعل موقع رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وشهدت تلك السنوات أحداثا كبيرة، وتحديات جساما.. فمن أقرب منه إلى عقل (حماس)، ومن الأقدر منه على التعبير عن رؤاها وفكرها السياسي؟
على مدار خمس ساعات متصلات حاولنا الغوص في عقل الرجل، وفي فكر الحركة التي يقود؛ طرحنا أسئلة مهمة، وأخرى دقيقة، وثالثة على درجة عالية من الحساسية في الحلقة الثانية من الحوار .
واليكم نص الحوار الذي أجرته صحيفة السبيل الأردنية ..
التفاوض مع العدو، هل ترفضونه من حيث المبدأ؟ وإذا لم يكن التفاوض مع العدو، فهل يكون مع الصديق؟ هل المرفوض لدى حماس مبدأ التفاوض، أم شكله وإدارته ونتائجه؟
- لا شك أن هذا الموضوع من الموضوعات الشائكة والحسّاسة التي يـُؤثر كثيرون تجنّب الخوض فيها وتحديد موقف واضح إزاءها، خشية ردود فعل سلبية، أو تفسيرات غير سليمة؛ ويزيده حساسية وحرجا الظلالُ القاتمةُ التي التبست به جراء التجارب المريرة للتفاوض الفلسطيني الإسرائيلي، والعربي الإسرائيلي؛ والناس متأثرون بذلك، وباتت لديهم حساسية شديدة تجاه مصطلح «التفاوض»، خاصة لدى العقل الجمعي والمزاج الجمعي للأمة؛ صار هناك مقت ونفور من مفهوم التفاوض؛ وهذا أمر مستوعب ومتفهّم وطبيعي، لكنه لا يمنع من تناول الموضوع ووضع النقاط على حروفه، وفرز الأمور فرزا دقيقا يضع كل أمر في نصابه بإذن الله .
لا خلاف على أن التفاوض مع الأعداء غير مرفوض، لا شرعاً ولا عقلاً، وخاصة أن هناك بعض المحطات في الصراع بين الأعداء قد تتطلب وجود التفاوض. هذا في المنطق العقلي والشرعي؛ فالتفاوض كأداة ووسيلة قد يكون مقبولاً ومشروعاً في لحظة معينة، وقد يكون مرفوضاً وممنوعاً في لحظة أخرى، أي أنه ليس مرفوضا لذاته، ولا مرفوضاً على الدوام .
في التاريخ الإسلامي، في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي العصور اللاحقة، وأيام صلاح الدين الأيوبي، كان هناك تفاوض مع الأعداء، لكن ضمن مفهوم واضح وفلسفة محددة، وضمن سياق ورؤية وقواعد وضوابط تحكم هذا التفاوض، مغايرة للصورة المريرة والبائسة التي يمارسها من باتوا يحترفون التفاوض ويعتبرونه منهج حياة، وخيارا استراتيجيا وحيدا يشطبون من أجله بقية الخيارات .
إذا كانت المقاومة، على قدرها وشرفها، وسيلة لا غاية، فهل يعقل أن نجعل التفاوض غاية وخيارا وحيدا ونهجا دائما، لا وسيلة وتكتيكا قد يتم اللجوء إليه عند الضرورة والحاجة وتوّفر الموجبات؟!
لذلك المفهوم القرآني واضح؛ الله سبحانه وتعالى يقول: «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكّل على الله»؛ أي أن التفاوض يكون مقبولا ومعقولا ومنطقيا في مفهومنا كأصحاب قضية عادلة، عندما يضطر العدو إليه، عندها يأتينا للتفاوض وهو مستعد لدفع الثمن والاستجابة لمطالبنا؛ أما أن نسعى نحن إليه، ونلهث وراءه، ونعتبره خيارنا الوحيد، فعندها نحن من سيدفع الثمن؛ فالذي يضطر إلى التفاوض هو في العادة من يدفع الثمن. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة الأخرى: «ولا تهنوا وتدعو إلى السلم وأنتم الأعلون».
ونعود للآية الأولى «وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها» فقد سبقها قوله تعالى: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم». ماذا يعني ذلك؟ يعني أن القوة وامتلاك أسبابها هي التي من شأنها دفع العدو اضطراراً إلى السلم، وأن جنوح العدو للسلام والتفاوض، هو ثمرة للجهاد والمقاومة وامتلاك القوة، ومن يفكر بالتفاوض بعيدا عن المقاومة، ودون أن يمتلك أوراق القوة، فإنه يذهب عملياً نحو الاستسلام .
في علم الاستراتيجية وإدارة الصراعات، التفاوض هو امتداد للحرب، ونوع من إدارة الحرب بطريقة أخرى، فما تأخذه بالتفاوض على الطاولة هو نتاج وضعك على الأرض، وحصيلة ميزان القوى في الميدان؛ فإذا كنت مهزوما في الميدان، ستهزم لا شك في التفاوض؛ وإذا كانت الحرب تحتاج إلى موازين قوى، فالتفاوض يحتاج هو الآخر إلى موازين قوى، والسلام يحتاج إلى موازين قوى؛ لأن السلام لا يصنع بين طرف ضعيف وآخر قوي، وإلا كان استسلاما. الولايات المتحدة لم تصنع سلاما مع اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، بل فرضت عليهم استسلاما واتفاقية إذعان وخضوع. باختصار السلام يصنعه الأقوياء وليس الضعفاء، والتفاوض يمكن أن يخدم الأقوياء وليس الضعفاء .
الحالة بالنسبة للصراع مع الاحتلال الإسرائيلي مختلفة، فهناك نبت غريب جاء إلى المنطقة وفرض نفسه على أرض وشعب، وشرّد الناس من أرضهم، وأحل مكانهم مهاجرين استجلبهم من شتات الأرض. بالتالي هي حالة معقدة، وينبغي التعامل معها تعاملا دقيقا وحسّاسا .
التفاوض حين تتوفر شروطه ومتطلباته الموضوعية، وعلى رأسها وضع يتوفر فيه قدر كافٍ من التوازن والتكافؤ النسبي، وحين تتأكد الحاجة إليه، مع التوقيت المناسب له، لا تعجلاً ولا إبطاءً، عندئذ يمكن أن يكون أحد الخيارات التي نلجأ إليها باعتباره آلية وأداة ووسيلة، وليس هدفاً ولا غاية، ولا حالة دائمة ولا خياراً استراتيجياً. التفاوض أداة تكتيكية؛ وكما أن الحرب ليست حالة دائمة، ولها متطلباتها وشروطها، كذلك التفاوض .
وبهذه الرؤية المحددة للتفاوض، وحين يـُمارس بحذر شديد، وقواعد صارمة، وفي التوقيت الصحيح، فإنه يكون مقبولاً ومفيداً في سياق إدارة الصراع، وبغير ذلك فلا يقود إلاّ إلى الاستسلام والخضوع لهيمنة العدو وشروطه، والتفريط بالحقوق، والخفض المتواصل لسقوف المطالب والمواقف السياسية .
وللأسف، فإن الحالة العربية والفلسطينية – في الأغلب - بالنسبة لهذا الموضوع، غاية في السوء؛ هي حالة مكشوفة، بلا أوراق تفاوض، وبلا سند، بلا مناورة، ولا هوامش إخفاء أو غموض. الصفّ الفلسطيني مكشوف بالكامل، بحيث يذهبون إلى السلام وهم يعلنون أنه الخيار الاستراتيجي الوحيد؛ وإذا كان عدوك يعلم أنك لا تملك إلا التفاوض، ولا تتحدث إلا عن السلام، ولا تملك خيارا آخر، فما الذي يضطره لتقديم التنازلات لك؟ !
المفاوض الفلسطيني يقول: التفاوض هو الخيار والنهج والبرنامج الوحيد؛ وهو ينسّق أمنيا مع العدو، ويطبّق خريطة الطريق ومتطلباتها الأمنية مجاناً، دون أن يقدّم الإسرائيلي أي مقابل. فما الذي يجبر أولمرت أو نتنياهو على إعطائه أي شيء !!
التفاوض في الحالة الفلسطينية خارج عن سياقاته الموضوعية؛ وبالمنطق السياسي المجرد هو يفتقر إلى المقاومة ولا يستند إلى أوراق القوة اللازمة. الفيتناميون – على سبيل المثال - فاوضوا الأمريكيين حينما كانوا يتقهقرون، فكان التفاوض حينئذ مفيداً لطي آخر صفحة من صفحات الاحتلال والعدوان الأمريكي. فأنت بقدر ما تملك من أوراق قوة على الأرض، وتحسن استثمارها، بقدر ما تنجح في التفاوض، وفي فرض شروطك على عدوك .
لذلك، وحتى لا يكون التفاوض عملية خطرة وعبئاً عليك، فإنك تحتاج أن تكون رسالتك لعدوك واضحة، أنك منفتح على كل الخيارات، ليس بالكلام فقط، بل بالفعل أيضا. فلا يمكن للمفاوض أن ينجح إذا لم يستند إلى قاعدة تعدد الخيارات، بمعنى أنك بمقدار استعدادك للتفاوض، فإنك مستعد وقادر على الذهاب إلى الحرب؛ وإذا وصل التفاوض إلى طريق مسدود، فينبغي أن تكون جاهزا للذهاب إلى الحرب أو الاستنزاف أو المقاومة؛ بدون ذلك لا قيمة للتفاوض. وعلينا أن نتذكر أن التفاوض في الحروب قديماً، كان كثيراً من الأحيان يجري في ساحة المعركة، فإما أن يصل المتفاوضون إلى حلّ، وإما أن يستأنفوا الحرب .
التفاوض، هو أداة وتكتيك في خدمة الاستراتيجية، وليس استراتيجية قائمة بذاتها، كما أنه ليس بديلاً عن المقاومة واستراتيجية المواجهة مع الاحتلال .
ولا بد أن يكون التفاوض مستندا إلى وحدة موقف وطني؛ فإذا ما رأى فريق جدوى خطوة ما باتجاه التفاوض، وانفرد بالقرار عن المجموع الوطني، فإنه يضع نفسه في وضع صعب، ويمنح عدوه فرصة سيستغلها ضده بالتأكيد؛ كما أن من شأن ذلك أن يدفع المفاوض إلى تقديم تنازلات كبيرة حتى لا يضطر إلى الاعتراف بفشل خياره التفاوضي، فيؤثر حينئذ تقديم مصلحته الذاتية على حساب المصلحة الوطنية، كيلا ينكشف أمام شعبه وأمام الآخرين .
والتفاوض له مساحاته ومجالاته المحددة وليس خياراً مطلقاً في كل الأمور، فهناك أمور لا يجوز التفاوض عليها، فالثوابت الحاسمة لا يجوز التفاوض عليها. التفاوض آلية وتكتيك ضمن هوامش ومساحات محددة، وليس هناك عاقل يتفاوض على كل شيء خاصة على الأصول. التفاوض في التجارة يكون في الغالب على الأرباح وليس على الأصول التجارية؛ لكن للأسف، فإن التجربة الحالية خاصة بالنسبة للمفاوضات الفلسطينية خرجت على كل هذه القواعد .
بكل أمانه وشجاعة أقول: التفاوض من حيث النظرة المطلقة، ليس حراماً ولا ممنوعاً، لا بالميزان الشرعي ولا السياسي، ولا بتجارب الأمة والإنسانية، ولا بممارسة حركات المقاومة والثورات عبر التاريخ؛ لكن ينبغي أن يخضع لمعادلات وضوابط وحسابات وظروف وتوقيتات وسياقات وطريقة إدارة صحيحة، وبدونها يصبح أداة معاكسة ومدمرة .
في الحالة الفلسطينية؛ نقول إن التفاوض اليوم مع «إسرائيل» خيار خاطئ. وقد عرض على حماس التفاوض مع «إسرائيل» مباشرة لكنها رفضت، وعرض على قياداتها أن تلتقي عددا من القيادات الإسرائيلية، بعضها في موقع السلطة كما حصل في عرض إيلي يشاي، وبعضها محسوب على معسكر السلام، ، لكن حركة حماس رفضت تلك العروض .
التفاوض اليوم – في ظل موازين القوى القائمة - يصبّ في خدمة العدو، ولا يخدم الطرف الفلسطيني؛ حيث لم يتطور واقع الصراع على الأرض إلى حالة تجبر العدو الصهيوني على اللجوء إلى التفاوض،بل ما زال إلى اليوم يرفض الانسحاب من الأرض، ولا يعترف بالحقوق الفلسطينية؛ والتفاوض في مثل هذه الحالة يصبح نوعا من العبث والمقامرة .
في ظل ضعفنا واختلال موازين القوى، «إسرائيل» تستخدم التفاوض أداة لتحسين علاقاتها وتلميع صورتها لدى المجتمع الدولي، وتستغله لكسب الوقت، ولإيجاد وقائع جديدة على الأرض، عبر بناء المستوطنات، وتهجير السكان، وتهويد القدس وهدم أحيائها وتفريغها من أهلها، كما تستفيد منه غطاء لتمرير جرائمها، ولخفض سقف المطالب الفلسطينية. «إسرائيل» تستغل التفاوض للتطبيع مع العالم العربي والإسلامي واختراقه، ولتشويه طبيعة الصراع، وهي المستفيد الوحيد من المفاوضات بصورتها القائمة .
التفاوض في ظل الخلل القائم في موازين القوى، هو إخضاع للطرف الفلسطيني لمتطلبات المحتل الإسرائيلي ولشروطه وإملاءاته؛ هو ليس عملية متكافئة، فكما لا يوجد حالياً تكافؤ في ميدان المواجهة، لا يوجد تكافؤ على طاولة المفاوضات .
مسألة الاعتراف بالكيان الصهيوني تثير الكثير من اللغط، وثمة حديث عن اعتراف قانوني وآخر واقعي.. ما موقف حماس من هذه المسألة؟
- موقفنا من موضوع الاعتراف بشرعية الاحتلال واضح ومحسوم، لا نداري فيه ولا نواري؛ لقد وُضع الاعتراف بـ «إسرائيل» شرطاً للانفتاح الدولي علينا، بالتالي أصبح عقبة في طريقنا، لكننا لم نبال بذلك، وأظهرنا تصميما على الصمود أمام هذا التحدي، لأن الاعتراف يعني «شرعنة» الاحتلال، وإضفاء الشرعية على ما ترتكبه «إسرائيل» من عدوان واستيطان وتهويد وقتل واعتقال وجرائم وحشية بحق شعبنا وأرضنا؛ وهذا غير مقبول وفق القانون الدولي ووفق القيم الإنسانية، فضلا عن الأديان السماوية .
فمن المرفوض إعطاء الشرعية للاحتلال وسرقة الأرض؛ الاحتلال جريمة، والسرقة جريمة، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن تحظى بالشرعية، وهذه مفاهيم لا خلاف حولها في المفهوم الإنساني العام، فكيف الحال بالنسبة للفلسطيني الذي هو الضحية وصاحب الأرض التي انتزعت منه غصبا وقهرا؟! هذه مسألة مبدأ ترتبط بوجودنا الإنساني الذي يتناقض مع الاعتراف بشرعية الاحتلال والاغتصاب، فكيف حين يضاف إلى ذلك ما يربطنا بهذه الأرض المباركة المقدسة من مشاعر وطنية ودينية، وانتماء حضاري، وعمق تاريخي له جذوره الضاربة في القِدم .
الآخرون وقعوا في هذا الفخ نتيجة العجز والخضوع للضغوط الخارجية، وظنوا أن الاستجابة لهذه الشروط والضغوط قد يسهل عليهم الانتقال إلى مراحل متقدمة في برنامجهم السياسي، لكن ثبت عملياً أنهم دفعوا ثمناً باهظا مقابل الوهم. هم أخطأوا بالمنطق المصلحي، كما أخطأوا بالمنطق المبدئي .
ونحن نرفض موضوع الاعتراف بمعناه القانوني، كما نرفضه بمعناه الواقعي، ففرق بين أن أقول إن هناك عدواً اسمه «إسرائيل»، وبين أن أقر بشرعيته؛ هذا لا يسمى اعترافاً واقعياً. باختصار نحن نرفض الاعتراف بشرعية «إسرائيل»؛ لأننا نرفض الاعتراف بشرعية الاحتلال وسرقة الأرض، وهذا مبدأ واضح وحاسم بالنسبة لـنا .
لكن، ألا تستغربون هذا الإصرار الإسرائيلي والدولي على مسألة الاعتراف بـ «إسرائيل»، ألا يشكل ذلك، في أحد أبعاده، مؤشر ضعف، حيث تظهر «إسرائيل» كمن تشك في وجودها وتطلب اعتراف الآخرين بشرعية هذا الوجود؟
- بلا شك.. العدو قلق على مستقبل كيانه، خاصة في ظل التطورات الأخيرة؛ ونفسيته مثل نفسية اللص والمجرم الذي مهما بلغت قوته يشعر في النهاية أنه خارج على القانون، ومفتقر إلى الشرعية. اشتراط الاعتراف هو بالتأكيد مؤشر ضعف، وتعبير عن عقدة النقص، وعدم الثقة بمستقبل هذا الكيان، والإحساس بأنه لا يملك الشرعية، وبأنه ما زال مرفوضاً من شعوب المنطقة، وجسماً غريباً عنها، وأن مجرد وجود الشعب الفلسطيني صامداً هو تعبير عملي عن رفض القبول بالكيان الصهيوني ورفض الاعتراف بشرعيته .
لكن، ثمة بعد آخر وهو الشعور بالفوقية، هذا المنطق تتعامل به الدول الغربية مع دول العالم الثالث؛ والصهاينة يتعاملون بنفس المنطق استنادا إلى التفوق العسكري، ويشعرون بأنهم الطرف الذي من حقه أن يملي الشروط على الآخرين، بما فيها الشروط المسبقة لأي تعامل أو تفاوض .
هذا المنطق للأسف استجابت له بعض الأطراف الفلسطينية والعربية، وهذا الخلل لا يجوز أن نقبله. في حواراتنا مع الوفود الأجنبية نجدهم باستمرار يتحدثون عن شروط الرباعية؛ وبعضهم يعرض علينا شروطا مخففة تسهيلاً للقبول بها؛ نحن رفضنا الشروط من حيث المبدأ، كما رفضنا مناقشتها حتى في سياق البحث عن صيغ مخففة لها. مبدأ الشروط مرفوض، فهو يعني وجود مستويين من البشر، ووجود طرف مهيمن على طرف؛ طرف له اليد العليا، وآخر له اليد السفلى؛ إنسانيتنا وكرامتنا واحترامنا لأنفسنا يأبى علينا إلا أن نكون ندا للآخر حتى لو كان أقوى منا عسكرياً ؛ وبالتالي نرفض أن يتعامل معنا بشروط مسبقة .
للأسف، من الأخطاء التي تغريهم بهذا النهج، أن البعض قبل بتلك الشروط ومنها موضوع الاعتراف، ثم اقترف خطأ آخر حين لم يقايض الاعتراف بـ»إسرائيل» بالاعتراف بالحقوق الفلسطينية، بل قايضه بأن تعترف به هو؛ وهذا خلل كبير إلى جانب الخلل الأصلي وهو الاعتراف !! فمن غير المعقول أن تعترف بـ»إسرائيل» مقابل أن تعترف هي بمنظمة التحرير أو بحركة ما، وليس بالشعب الفلسطيني أو بالدولة الفلسطينية أو بالحقوق الفلسطينية؛ هذا معناه أنك قايضت المصلحة العامة بالمصلحة الخاصة، قايضت الهدف الوطني الكبير بهدف حزبي صغير، نقول ذلك مع التأكيد على رفضنا لموضوع الاعتراف بصرف النظر عن ثمنه .
لذلك في حواراتنا مع تلك الوفود الغربية، نقول لهم: رغم حرصنا على التواصل معكم والانفتاح على دول العالم، لكننا لا نستجدي ولا نبحث عن اعتراف غربي بنا كحماس، هذا لا يهمنا؛ فشرعيتنا نابعة من الشعب الفلسطيني، ومن صناديق الاقتراع، ومن الديمقراطية الفلسطينية، ومن شرعية النضال والتضحيات والمقاومة، ومن عمقنا العربي والإسلامي، ولا نبحث عن شرعية تأتينا من الخارج؛ ما نسعى لتحقيقه وانتزاعه هو الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، بحق شعبنا في الحرية والخلاص من الاحتلال وحق تقرير المصير، ولن يكون ذلك مقابل الاعتراف، لأن الاعتراف هو في النهاية إقرار بشرعية الاحتلال والعدوان وسرقة الأرض .
برأيكم لماذا يرفض المجتمع الدولي والجانب الإسرائيلي عرض الهدنة طويلة المدى التي طرحتها حماس؟
- هذا الرفض من الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية وبعض الأطراف الدولية عائد إلى عدة أسباب :
السبب الأول: منطق القوة والتفوق والهيمنة لدى هذه الأطراف، فهم يعتقدون أن قوتهم المتفوقة تمكّنهم من فرض ما يشاؤون علينا، ويعتبروننا كفلسطينيين وعرب الطرف المهزوم الذي لا يسعه إلا أن يوقع صك الاستسلام كما فعلت ألمانيا واليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وليس أن يقدم حلولاً أو أفكاراً أخرى، كالهدنة وغيرها .
السبب الثاني: أنهم يرون أطرافاً عربية وفلسطينية تعرض عليهم عروضاً أكثر إغراءً، فكيف يستجيبون لعرض هدنة، في حين يعرض عليهم الآخرون الاعتراف بـ «إسرائيل» مقابل حل على أساس حدود 67، مع استعدادهم للتفاوض معها على تفاصيل ذلك الحل، أي الحدود والقدس وحق العودة !!
السبب الثالث: أن تجربة الأمريكان والصهاينة وغيرهم مع أطراف أخرى في المنطقة، تغريهم بالاستنتاج أن مزيداً من الضغط علينا سيلجئنا إلى حالة الضرورة كما فعل الآخرون، فهم جربوا سياسة الضغوط والابتزاز مع غيرنا ونجحت تلك السياسة، ما يدفعهم للقول: لنجرب ذلك مع «حماس» لعلها تخضع كما خضع غيرها .
أضف إلى ذلك أن بعض العرب والفلسطينيين – للأسف - يقولون لهم: حاصروا «حماس» وضيّقوا عليها مالياً وسياسياً، وحرّضوا عليها، ولا تنفتحوا عليها مباشرة، وحافظوا على شروطكم، ولا تستعجلوا، فـ»حماس» ستخضع في نهاية المطاف !
هذه الأسباب، وربما غيرها، تدفعهم إلى أن لا يقبلوا عرض الهدنة. وفي الحوار مع الوفود الغربية نقول لهم: نعم، مواقف غيرنا أسهل، ومواقفنا أصعب، إلا أن ميزتنا أننا حين نقدم عرضاً أو نحدد موقفاً فإننا نجتهد أن يكون قابلاً للتطبيق على الأرض، وفي ذات الوقت يمكن أن يحظى بثقة الشعب الفلسطيني والجمهور العربي والإسلامي، ولا يكون كذلك إلا إذا كان غير متناقض مع ثوابته الوطنية وحقوقه ومصالحه .
أما مواقف البعض الآخر في الساحة الفلسطينية، فهي وإن كانت سهلة إلا أنها مفتقرة إلى الرضا والقبول من غالبية الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية ونخبه المثقفة، فما قيمة ذلك عملياً، ما قيمة الوصول مع بعض القيادات إلى حلول أو اتفاقات ترفضها الأغلبية من الشعوب؟! فقد فُرضت أوسلو من قبل،وفشلت، لأنها كانت مجحفة وغير ملبية لتطلعات شعبنا، وظلت منبتَّةً عن الواقع الفلسطيني والعربي .
من هنا نحن ندرك أنهم سيضطرون في النهاية إلى التعاطي مع رؤية «حماس»، ورؤية القوى والقيادات المتمسكة بالثوابت الوطنية. ونحن نقول لهم: إذا كنتم قادرين على تحقيق نجاح في المنطقة من خلال المشاريع الأخرى، حاولوا وستصلون إلى طريق مسدود .
قد يسهل على القوى الكبرى الميل إلى الحلول السهلة مع القيادات والحكام دون أن تنظر إلى أهمية أن تكون هذه الحلول مقنعة ومرضية للشعوب، ويغيب عن هؤلاء أن التصالح مع القيادات والحكومات وحدها مؤقت ونَـفَـسه قصير، ولا يصنع استقراراً في المنطقة مهما بلغ حجم الضغط والقهر الذي يمارس على الشعوب، إلا أن النجاح لأي مشروع مطروح يتحقق فقط حين تقتنع به الشعوب، وتشعر أنه مُرضِ لها ومنصف، ولو مرحليا. والبعض في الغرب بدأ يدرك اليوم أهمية هذا الأمر، لذلك هو يطوّر موقفه حالياً – ولكن بطيئاً - باتجاه التعاطي مع «حماس»، وما زالت هناك عوائق تحول دون ترجمة هذا التطور المحدود إلى خطوات حقيقية جادة، ونحن في المقابل لسنا مستعجلين، فالذي يهمنا ليس دورنا، ولكن التزامنا بحقوق شعبنا ومصالحه .
مقاومة حماس، هل هي موجّهة ضد الصهاينة بصفتهم يهودا أم بصفتهم محتلين؟
- لا نحارب الصهاينة لأنهم يهود، بل نحاربهم لأنهم محتلون. السبب وراء حربنا مع الكيان الصهيوني ومقاومتنا له هو الاحتلال، وليس الاختلاف في الدين. المقاومة والمواجهة العسكرية مع الإسرائيليين سببها الاحتلال والعدوان والجرائم التي يرتكبونها بحق الشعب الفلسطيني، وليس بسبب الاختلاف معهم في الدين والمعتقد .
رغم أننا ندرك جيداً أن «إسرائيل» تستدعي الدين وتوظّفه في المعركة، وتستدعي أحقادا تاريخية، ونصوصا محرّفة، وأساطير وخرافات، وعواطف دينية؛ وتوظف ذلك كله في المعركة ضد الفلسطينيين والعرب والمسلمين، حتى القيادات الصهيونية العلمانية، ومنذ بداية الحركة الصهيونية، تستغل الدين وتوظفه سياسياً؛ والكيان الصهيوني أصلاً قائم على عنصرية الدين، أو العنصرية الدينية، لكن خلافنا معهم في الدين ليس هو الذي أوجد حالة الحرب والمقاومة ضدهم، وإنما نقاتلهم لأنهم محتلون .
بالنسبة لنا، الدين يشكل ركناً أساسياً في حياتنا وانتمائنا وهويتنا وثقافتنا وسلوكنا اليومي؛ ومن طاقتنا التي تعزز صبرنا وصمودنا، وتدفعنا إلى مزيد من التضحية والعطاء، فهو طاقة هائلة في مواجهة الظلم والعدوان والقوى الغاشمة المتربصة بشعبنا وأمتنا، لكننا لا نجعل الدين طاقة تورّث الأحقاد، ولا سبباً أو غطاء لظلم الآخرين أو العدوان عليهم، أو انتزاع ما ليس لنا، أو التعدي على حقوق الآخرين .
هل أنتم راضون عن مستوى إنجازاتكم على صعيد العلاقات الدولية؟ وما موقع هذه العلاقات في فكر حماس وبرامجها وأولوياتها؟
- العلاقات الدولية في فكر حماس السياسي لها عدة أبعاد :
البعد الأول؛ القناعة بأن معركة فلسطين في أحد وجوهها، هي معركة الإنسانية ضد الظلم والطغيان الإسرائيلي وضد المشروع الصهيوني العنصري الذي يستهدف العالم والإنسانية بأسرها، ويهدد مصالح الشعوب والأمم، ولا يقتصر شرّه وخطره على فلسطين والفلسطينيين والعرب والمسلمين .
البعد الثاني؛ ضرورة تسويق قضيتنا العادلة، وكسب المزيد من الأصدقاء المؤيدين لحقوقنا المشروعة، ولحقنا في مقاومة الاحتلال والعدوان. وقد ثبت عملياً أن الضمير الإنساني ما زال فيه خير، ويمكن إيقاظه وتحريكه لصالحنا إذا أحسنّا عرض قضايانا، واجتهدنا في كشف الكيان الصهيوني على حقيقته. ولعل موضوع كسر الحصار عن غزة، والنجاح في كسب هذا العدد الكبير من المتضامنين لهذه القضية من خلال حركة السفن إلى غزة، نموذج لأهمية هذا البعد. مع التذكير والتأكيد على أن المواجهة مع الكيان الصهيوني – شعبياً وعبر المقاومة – كما في حرب غزة وجنوب لبنان وأسطول السفن على سبيل المثال، هي التي تكشف الوجه القبيح لهذا الكيان، وليست المفاوضات واللقاءات معه، فهي تجمّل صورته وتغطي على حقيقته وجرائمه .
البعد الثالث؛ كما أن «إسرائيل» تحاصرنا وتلاحقنا على المسرح الدولي، فإن علينا أن نلاحقها في كل المحافل الدولية؛ فلا يجوز أن نترك هذا المسرح حكراً عليها. وللأسف فإن الجانب الفلسطيني والعربي الرسمي قصّر كثيرا في هذا الأمر، وغاب دوره الحقيقي، لكن الذي خفف من هذا التقصير والغياب هي جهود الجاليات الفلسطينية والعربية والإسلامية التي تحركت في الآونة الأخيرة بشكل أفضل على الصعيد الدولي وحققت نجاحات مؤثرة، واختراقات مهمة، وساهمت في كسب أصدقاء ومؤيدين للقضية الفلسطينية وللقضايا العربية والإسلامية، وعملت على كشف الوجه الحقيقي البشع والدموي لـ»إسرائيل» التي أصبح سلوكها العدواني والوحشي يصدم الشعور والضمير الإنساني، ويتناقض مع القيم الأخلاقية للشعوب الغربية ولكل شعوب العالم. كما ساهمت هذه الجاليات وفعالياتها المختلفة في ملاحقة «إسرائيل» قانونياً وقضائياً .
البعد الرابع؛ نحن معنيون بنسج شبكة علاقات قوية وفاعلة على كل المستويات؛ الدولية إلى جانب العربية والإسلامية، وقد أنشأنا لدينا في الحركة قسماً خاصاً للعلاقات الدولية يُعنى بهذا الجانب، لأننا نعتبره أحد عوامل القوة والانفتاح وكسب التأييد الدولي للقضية والحركة .
البعد الخامس؛ بناء العلاقات الدولية يبدأ من هنا، أي من داخل المنطقة، فهنا الزرع الأساس، وهناك في الغرب الحصاد والقطاف مع قدر مطلوب من الزرع والعمل الدؤوب كذلك .
أي أن عامل القوة الأساس لتحقيق الاختراق والنجاح في العلاقات الدولية، هو بأن نكون أقوياء على الأرض، منغرسين فيها، ملتفين حول شعبنا وأمتنا، نمارس المقاومة والصمود، عندها يحترمنا العالم، ويدرك أنه لن يكون هناك سلام ولا استقرار في المنطقة إلا إذا تعامل معنا، وأعطانا الاعتبار الذي نستحقه، واحترم مصالحنا وحقوقنا ومطالبنا المشروعة، وتراجع عن سياساته الراهنة القائمة على الانحياز لـ»إسرائيل» وتجاهل الفلسطينيين والعرب والمسلمين .
لقد حققنا في هذا المجال نجاحات جيدة بفضل الله، غير أن الطريق ما يزال طويلا وأمامنا شوط بعيد. ونحن راضون نسبيا عن حجم الإنجاز الذي تحقق في ظل حجم العوائق التي تواجهنا وتوضع في طريقنا. ولا يغيب عن البال أن مستوى العلاقات ومردود الكسب المتحقق، لا يعتمد علينا وحدنا، إنما على الطرف الآخر أيضاً، فهكذا هي العلاقات السياسية، بل والإنسانية .
وإذا ما أردنا أن نقيس مستوى المردود المتحقق من وراء الجهود التي بذلناها، بحجم الاختراق والتأثير الصهيوني في العالم، ستظهر الفجوة واسعة؛ ففي ظل السياسة الغربية التي نظرت إلى «إسرائيل» كامتداد طبيعي لها، فقررت دعمها بلا حدود؛ وفي ظل ضعف الأداء العربي، والدبلوماسية العربية، وكذلك التحريض الذي مارسته أطراف فلسطينية وعربية ضد الحركة، لا شك أن كل ذلك أثّر في حجم النجاحات والإنجازات .
لدينا الآن جملة علاقات رسمية على المستوى الدولي، كالعلاقة مع روسيا، وعدد من دول أمريكا اللاتينية، وبعض الدول الآسيوية والأفريقية، كما أن لدينا علاقات دولية رسمية أخرى، بعضها من تحت الطاولة نتيجة ظروف الآخر، وعلاقات غير مباشرة عبر مسؤولين سابقين يتواصلون معنا بعلم المسؤولين الرسميين في دولهم، كما الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. وهذا كله تطوّر مهم، ولن يطول الزمن بإذن الله حتى يتطور ذلك إلى التعامل بالمستوى الواضح والرسمي والواسع مع الحركة .
ونحن هنا لا نتحدث عن العلاقات الدولية من موقع التلهّف والتهالك والاستعجال والبحث عن مجد حزبي، إنما نبني هذه العلاقات ونتابعها برصانة واتزان واحترام للذات، من منطلق تحقيق المكاسب للقضية الفلسطينية، لا المكاسب الحزبية الضيقة .
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية