صورة (إسرائيل) في عامها الجديد
د. عدنان أبو عامر
في هذه الأيام، ومع بدء العام الجديد، تدخل (إسرائيل) عامها الخامس والستين، وهي تجري كشف حساب لها، من خلال دراسة جملة من الظواهر المصاحبة لها، باتت تؤرق صانع القرار فيها، اليوم وفي قادم الأيام، لاسيما وهي تعتقد بأن المسوغ الأساسي لقيامها على أنقاض الأرض الفلسطينية، جاء لتكون قاعدة عسكرية متقدمة للمشروع الغربي في المنطقة العربية، وفي مراحل لاحقة تحولت لتصبح "حاملة طائرات" بكل ما تحمل الكلمة من معنى، مما جعلها "الطفل المدلل" للعواصم الغربية، ليس بالضرورة حباً في سواد عيون اليهود، ولكن لأنهم يقدمون خدمات جليلة "غير مجانية" لتلك العواصم.
ومع ذلك، فإن الضلع الأساسي من أضلاع الأزمة الإستراتيجية لـ(إسرائيل) إقليمياً ودولياً -وهي تدخل العام الجديد- يتمثل في شعورها بفقدان الدور والوظيفة المناطة بها منذ تأسيسها، لاسيما بالنسبة للغرب، وتمثل ذلك بما عرضته شعبة التخطيط في هيئة الأركان العامة للجيش (الإسرائيلي)، من تقديرات متشائمة للأوضاع السياسية والأمنية بشكل استثنائي، واعتقادها بأن العام الجديد قد يشهد تفاقماً لبيئتها الاستراتيجية بشكل خطير، مما سيجعلها تقف في وضع بالغ الصعوبة أكثر من الوضع الحالي.
ويتزامن هذا الأمر بصورة وثيقة بما يسمى "تآكل" المواقف الأميركية في الساحة العالمية، مما سيجعل من قدرتها على تحقيق استقرار الشرق الأوسط مقيدة مقارنة بالماضي، ولمحاولة استدراك تراجع الوظيفة الغربية للدولة (الإسرائيلية)، تطالب أوساط صناع القرار في (تل أبيب) بالتصدي للتحديات العسكرية والسياسية المناطقية، وللتآكل في أساس قوة ردعها، لأن ذلك سيتركها فترة من الزمن تقف بانتظار الحسم في مواضيع سياسية وأمنية جوهرية، وسيكون لها تأثير حتمي على الحلبة السياسية الداخلية والخارجية.
فـ(إسرائيل) موجودة في وضع يمكن فيه أن تهتز، وكل جهد لمنع هذه الاهتزازات سيكون منوطاً بثمن دبلوماسي، وبصعوبة في استيعاب التحديات الأمنية، أما على الصعيد الخارجي، فإنها تعيش فترة تتميز بتفاقم سريع للتهديدات الأمنية والسياسية المحدقة بها، وتدهور وضعها الإستراتيجي في ظل الحراك العربي المتلاحق، وفقدانها لأنظمة شكلت لها على الدوام مخزوناً احتياطياً عز نظيره.
والمثير أن سيطرة (إسرائيل) باتت محدودة على حجم هذه التغيرات وآثارها، مما سيجعلها تجد نفسها عالقة في وضع لا تملك فيه ردوداً على أكثر التحديات التي تؤثر في مكانتها السياسية ووضعها الأمني في السنوات المقبلة، وربما ما يزيد الأمور تعقيداً وسواداً لدى مراكز التفكير (الإسرائيلية)، ما تشهده العلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من أزمة غير مسبوقة في حدّتها حول جملة من المواقف، لعل أهمها الصراع مع الفلسطينيين، وجميع المؤشرات تقطع بما لا يدع مجالاً للشك أن شرخاً أصاب "الحليفين الاستراتيجيين"!
وهناك تخوّف من أن تصل العلاقات بين (تل أبيب) وباقي العواصم الغربية مرحلة "الطلاق البائن"، في ضوء أن الأزمة الحالية بينهما لا تتلخص في الفوارق السياسية العميقة القائمة، بل في الاختلاف العميق في أوضاعهما.
مع العام الجديد أيضاً، يشهد المراقب لحالة (إسرائيل)، سلّماً بيانياً يميل إلى التراجع في مختلف المستويات السياسية والأخلاقية والسكانية، وتقتضي الضرورة العلمية الإشارة إلى أن هذه التراجعات باتت على أبواب المستوى العسكري، رغم أنه شهد طفرات كبيرة -وكبيرة جدا- خلال العقود الماضية، وهو الأمر الذي وجد ترجمته العملية والميدانية في نجاح الجيش (الإسرائيلي) في تحقيق نجاحات عسكرية عز نظيرها في التاريخ الحديث والمعاصر، بدءًا بما يسميه المؤرخون (الإسرائيليون) "حرب الاستقلال" عام 1948 والتي شكلت العد التصاعدي لنكبة فلسطين، وصولا إلى "حرب الأيام الستة" عام 1967 والتي أسماها العرب "نكسة حزيران"، وانتهاء "بحرب سلامة الجليل" عام 1982 والتي نجحت (إسرائيل) من خلالها في إخراج الثورة الفلسطينية من الأراضي اللبنانية.
ولكن، ما الذي جعل ذات الجيش -ودولته صاحبة القوة العسكرية الرابعة على مستوى العالم- يتوقف عن ذلك المسلسل من الانتصارات؟ وما الذي حل به من تراجعات وعيوب وثغرات؟ ولماذا وصل قطار الانتصارات (الإسرائيلية) إلى محطته الأخيرة ليبدأ مسلسل الهزائم والإخفاقات؟
يمكن القول إن (إسرائيل) التي تدخل عامها الـ65 تعاني من غياب حقيقي لمفهوم الردع الذي بنت عليه أسطورة "الجيش الذي لا يقهر"، بعدما ألغت المقاومة الفلسطينية من القاموس (الإسرائيلي) مصطلح "الحدود الآمنة"، ووقف جيشها عاجزًا أمام ابتكارات المقاومين، مما دفع قادته إلى إعلان عدم امتلاكهم حلولاً سحرية لقمعها، ونجحت في فرض المعاناة المباشرة على (الإسرائيليين) نتيجة سياسات حكوماتهم المتعاقبة.
وبينت أن اختلال موازين القوى لصالح المحتل، لم يحقق له الحل الذي أراد، بل على العكس، فقد فاقمت من أزمة نظامه السياسي، وأقنعت الأحزاب الحاكمة طوال ستة عقود بأن سياستها القائمة على الضم والإلحاق بأرض (إسرائيل) الكاملة اصطدمت بعقبات جدية، رغم تبنيها شعار الأمن أولاً! وعدم التفاوض في ظل العنف!
وعكست المقاومتان الفلسطينية والعربية طوال عقود ستة ماضية هي عمر (إسرائيل)، حالة تدهور وضعها الأمني، وتراجع القيمة الردعية لجيشها، خاصة الجرأة المتزايدة للمقاومين، مما أشار إلى تخطيط واستعداد لمواجهة مباشرة مع قوات الأمن، بعدما لوحظ تغير في أساليب عمل خلايا المقاومة التي أصبحت توجه مجهوداتها ضد قوات الاحتلال، ولا ترتدع عن خوض صدامات مباشرة معها، وبات واضحًا أن هذه العمليات سبقتها نشاطات استخبارية وتخطيط وجمع معلومات.
كما شهدت المقاومة خلال مختلف مراحلها وفي جميع جبهاتها الداخلية والخارجية، صراعًا دامياً مع الجيش (الإسرائيلي)، اشتد من الناحيتين الكمية والنوعية، حيث استمات المقاومون في الصدام على اعتبار أن موتهم سيزيد حدة المواجهة، رغم أن مجموعاتهم المسلحة لم يزد عدد أفراد الواحدة منها على أصابع اليد، تنطلق للاصطياد ولديها سلاح مصدره الأساسي مخازن جيش الاحتلال!
ووصلت (إسرائيل) إلى قناعة جاءت على لسان أحد قادتها بقوله "حظي أعداؤنا بنجاح عسكري في العام الماضي، ولاشك أن هذا النجاح سيثير شهيتهم لإحراز نجاحات جديدة في العام الجديد.. لقد ولدت الحرب الاحتلال، والاحتلال ولد المقاومة، والمقاومة ولدت الخطوات الوقائية والقيود والاعتقالات والتحقيقات، ومقابلها الردود، والردود على الردود، وحسابات الدم متواصلة، وأحلام الانتقام، وما نضج مجددًا هو روح الكراهية المتبادلة، وولدت الانتفاضة والمقاومة الواسعة".
أخيراً.. فقد أثبت خمسة وستون عاماً من تاريخ (إسرائيل) على الأرض الفلسطينية، أن المقاومة خلال مختلف مراحلها التاريخية أكدت فشل الهدف (الإسرائيلي) نحو خفض مستوياتها، لأن الجيش لم يقدر على خوض حرب طويلة، وليس هناك في الأفق ما يشير إلى نهايتها، وقد باتت أطول حرب يخوض غمارها "جيش الدفاع"!
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية