عملاقان تحق لهما الذكرى
مصطفى الصواف
بكيته بدموع غزيرة، وحزنت عليه حزنا لم أحزنه على أحد مثله، ولكني لم أكتب عنه، واليوم وفي ذكرى العام على الإرهاب الصهيوني يخرج عملاقا من بين الركام والحطام، ليقول لنا قول الله تعالى( ولاتهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)، قاد المعركة ميدانيا وحرك عناصره في كل مكان فحفظ امن المواطن، لم يهرب ولم يختبئ، بل صال وجال في شوارع غزة، وتنقل من مكان إلى مكان يحمل روحه على كفه، معه ولده، ولم يقل له أجلس في البيت أو ابحث عن مكان آمن، فرافقه كظله، وكان سره وحامله، ومراسله وناقل أوامره.
يوم استشهاده لم أكن أبعد عن بيته إلا أمتار، مر الصاروخ من فوق رأسي، ارتجف قلبي، ليس خوفا على نفسي، فلست مثله حتى أخاف، ولكني بيني وبين نفسي قلت بيت الأخ أبو مصعب ، يا الله، الصاروخ سقط قريبا، إنه في نفس الاتجاه، ارتجفت وبان القلق على وجهي، وأخذت الدموع تنهمر، وأنا أردد لا حول ولا قوة إلا بالله، وانتظرت وفتحت المذياع والتلفاز، لم تمض دقيقة أو دقيقتين وإذا بطارق للباب يقول إنه البيت الذي يجلس فيه الشيخ سعيد صيام، غار في الأرض وأصبح أثراً بعد عين، أدركت عندها أنه هو، وقلت رحمك الله يا أبا مصعب، وانكفأت جانبا أكفكف دمعي وأدعو الله أن يرحمه.
عرفته عن قرب والتقيته في كثير من المناسبات، كان إنسانا قبل أن يكون قائدا، كان يتمعر وجه غضبا عندما تنتهك حقوق إنسان أو يتعرض للأذى، كان وقافا على الحق، ولا يقبل ظلما أو جورا، كان يصرخ عندما يسمع ذلك ويزمجر كالأسد الهصور، ويسارع في المعالجة على مختلف الصعد.
إنه المختار الذي عرفته بيوت الناس وهو يعالج قضاياهم قبل أن يصبح وزيرا للداخلية والأمن الوطني، كان ينظر في الأمر ويقيس القضية ويعرضها على شرع الله، ويحكم بما يرضي ربه، بلا هوى أو مصلحة، فكان الكل يلجأ إليه ووضع الله على يديه كثيرا من المعالجات للمشاكل كان يمكن أن تكون فيها دماء فحقنها بحكمة وتعقل وبالحق يحكم، كان محبوبا يوم أن كان مدرسا، وكان أكثر حبا بين الناس وهو مختار، وكان ملاذ الجميع يوم أن كان قائدا ووزيرا، إلا أولئك النفر الذين أعمى قلبهم الحقد والكراهية فلم يعرهم حتى استشهاده وخرجوا ليقولوا هربوا عبر الأنفاق، وهم يعلمون أن البيوت غارت بهم تحت الأرض صعودا إلى العلياء وليس هروبا في الأرض.
في هذه الأيام يفتقد الإنسان أناساً أحبهم وعرفهم وتعرف على قدرهم من خلال أعمالهم ومواقفهم، ولابد أن نقف معهم ونذكرهم، فقد كانوا أعلاما تركت بصماتهم في ذاكرة كل فلسطيني وعمقوها يوم أن تصدوا للعدو بصدورهم وحملوا السلاح وقاوموا ورابطوا وصالوا وجالوا في ميادين مختلفة، فزرعوا في نفوس المجاهدين حب التضحية والقتال في سبيل الله، كانوا القدوة والمثل في ميدان القتال وأبلوا بلاء حسنا في ميدان العلم الشرعي وكم صدحت حناجرهم بالحق من على منابر المساجد، ومن داخل قاعات العلم، إنه العالم الرباني المجاهد الشهيد الشاهد الدكتور نزار ريان العسقلاني كما كان يحب أن يصف نفسه ارتباطا بمدينة عسقلان المحتلة من قبل الصهاينة منذ عام 48، ولكن لا ينسى عندما كان يعرف بنفسه عند سؤاله من أين أنت يا دكتور؟ فيقول أن من عسقلان وأسكن مخيم جباليا، وكان عندما يتحدث كان لا ينسى قول أن المطلوب ليس غزة والضفة فقط، بل المجدل وعسقلان وحيفا يافا وتل الربيع، ما أجمل كلمة المٍجدل عندما كان ينطقها تشعر انه يتحدث من أعماق أعماق قلبه.
يا له من أبي بلال، عندما رفض بإيباء ودون خوف أو وجل أو تردد، ترك بيته وأهله وآثر أن يكون بينهم رغم أنه قد يكون هدفا صهيونيا من ضمن بنك الأهداف الذي سلم عبر العملاء، وكأنه يقول ليس فينا أومنا من يهرب بنفسه ويترك أهله، فالرب واحد والمصير واحد والعمر واحد والشهادة في سبيل الله أسمى الأماني، فكانت الشهادة بين الزوجات والأولاد، فكانت الشهادة بكرامة هو وزوجاته الأربع وثلاثة عشر من الأبناء.
هذا نموذج للفخر والاعتزاز، ومثلهم آلاف الشهداء والجرحى الذي آثروا البقاء في بيوتهم ولم يفكروا ترك أرضهم، بل صمدوا وتصدوا وتحدوا فانتصروا، رحم الله الأخوين الفاضلين القائدين أبا مصعب وأبا بلال، ورحم الله كل الشهداء من أبناء الشعب الفلسطيني الذي قدموا أنفسهم لله أولا ولفلسطين وشعبها، مقبلين غير مدبرين.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية