غزة التي رأيت! ...بقلم : د. أكرم كساب

الجمعة 06 يناير 2012

غزة التي رأيت!

د. أكرم كساب
لم يغب عن خلدي يوما منذ نعومة أظفاري أن أغبر قدمي بتراب فلسطين, وكلما مر يوم وتلاه آخر تعلق قلبي بفلسطين كل فلسطين، بعد أن تعلمت أن فلسطين ليست قضية عادية, وإنما قضية أمة. وأيقنت بحق معنى قول القائل: ليست القدس مدينة... إنما القدس عقيدة .

وفى العام الماضي (2010) حاولت دخول غزة مع سفينة الأحرار (مرمرة) ضمن أسطول الحرية، ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهى السفن، فغدر اللئام من بنى صهيون بكوكبة من أحرار العالم، وكانت المجزرة التي استشهد خلالها تسعة من أحفاد محمد الفاتح وصلاح الدين الأيوبي، وأبي أيوب الأنصاري، وكان قدر الله لهذه السفينة أفضل لأهل غزة مما أراده أهلها وأراده ركوب السفينة، حيث فضح العدو الصهيوني، وأظهرت بشاعة فعله وجهه القبيح (وهو الوجه الحقيقي ) لهذا العدو الماكر.

وشاء الله أن تلوح لي في الأفق رحلة أخرى إلى غزة، ولكن هذه المرة عبر مصر، نعم عبر مصر الثورة.. لا مصر مبارك، مصر العروبة والإسلام والحضارة، مصر الشامخة برجالها وتاريخها وإسلامها... وكانت الرحلة ضمن مشاركة رابطة علماء أهل السنة فى قافلة ربيع الحرية، والتى أشرفت عليها الحملة الأروبية لرفع الحصار عن غزة.....

لماذا وفد رابطة علماء أهل السنة؟

في أحداث العدوان الغاشم الذي شنه العدو الصهيوني على غزة هاشم في عام ديسمبر 2008، يناير 2009، والذي أظهر فيه بنو صهيون طبيعتهم الحقيقية، التي تقوم أول ما تقوم على نفي الآخر وإقصائه، بل على مسح الآخرين من الوجود تماما، وتلك هي عقيدة الإبادة الجماعية التي أصلتها التوراة المزيفة حين قالت: أما مدن الشعوب التي يَهَبها الرب إلهكم لكم ميراثا، فلا تَسْتَبْقوا فيها نَسَمَة حية، بل دمِّروها عن بكرة أبيها، كمدن الحثِّيِّين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين، كما أمركم الربُّ إلهكم، لكي لا يعلِّموكم رجاستهم التي مارسوها في عبادة آلهتهم، فتغووا وراءهم وتخطئوا إلى الربِّ إلهكم.

في ظل هذا الجو الملئ بالأشلاء المتطايرة والأجساد الملقاة في قارعة الطريق، والأرواح المزهوقة كان ولا بد أن يكون للعلماء موقف نصرة حقيقي، بعيدا عن مجرد الكلمات الجوفاء والبيانات المدبجة من هنا أو هناك فتشاور العديد من العلماء في ذلك، وكانت هذه الرابطة المباركة والتي ترأسها أ-د- أحمد الريسونى، وأصبح أمينها العام د- صفوت حجازي وضمت العديد من العلماء منهم د/ عمر سليمان الأشقر، ود/صلاح سلطان , ود/ محمد الحسن ولد الددو........ وغيرهم كثير.

ورأت الرابطة أن يكون لفلسطين الحظ الأكبر من عملها، فلما أتيحت الفرصة لزيارة غزة شكلت وفدا ضم كلا من: أ-د/صلاح سلطان. (مصر)، ود/صفوت حجازي. (مصر)، والشيخ/أحمد هليل. (مصر)، والشيخ/أسامة أبو بكر. (الأردن)، ود/خالد حنفي، (مصر)، ود/ وصفى عاشور. (مصر)، والشيخ /محمد عنتر. (مصر)، والأستاذ: محمد النونابي. (الأردن)، وكاتب هذه السطور ..

عند المعبر كان الفارق

انطلقت بنا القافلة في حدود الساعة 7 صباحا من القاهرة، وسارت القافلة رويدا رويدا، ويحدوها الأمل بكل من فيها أن تصل إلى غزة هاشم، وبعد غروب الشمس كان وداع الجانب المصري لمعبر رفح، وفى الجهة الأخرى كانت وجوه غير الوجوه، وملامح غير الملامح، وجوه جديدة شاء العدو حصارها فحاصرته، وأراد سجنها فسجنته، وحرص على تخويفه فخوفته، حاصرته وهو المحاصر، وسجنته وهو السجان، وخوفته وهو المدجج بالسلاح.

وجوه سمحة، وأيد متوضئة، وقلوب نقية, وعزائم فتية، سحرتنا بابتسامتها، وأمطرتنا برائع استقبالها، لكنها أخفت وراء سحر الابتسام وحسن الاستقبال مرارة العتاب، ولسان حالها يقول: تأخرتم كثيرا يا بني جلدتنا.

رابطة علماء فلسطين

كان من ضمن الوفود المستقبلة عدد من علماء فلسطين ودعاتها ممن ينتمون إلى رابطة علماء فلسطين، وهي رابطة تضم العديد من العلماء والعاملين الذين جمعوا بين العلم والعمل، بين الدعوة والقدوة، فهم طلاب علم وحملة سلاح، يجمعون بين جهاد القلم وجهاد السنان، إذا أصبح الصباح فهم في محراب العلم معلمين ومربين، وإذا أمسى اليوم فهم دعاة متحركين، وإذا جن الليل فهم أئمة موجهين أو فرسان مرابطين، يصدق فيهم ما وصف به السابقون أنهم: رهبان باليل وفرسان بالنهار.

رأينا منهم كوكبة رائعة لا يسع بهم أحد، وهم والله جديرون بأن تسمع بهم الدنيا، لا يجرون خلف حطام الدنيا الزائل أو زخرفها اللعين.

لهم من البحوث العلمية والمقالات البحثية والكتب القيمة ما يستحقوا من أجله التقدير والثناء. وإن أنسى فلن أنسى الأساتذة الكرام: د: مروان أبو رأس، ود: يونس الأسطل، ود: سالم سلامة ، ود: وسيم يا سين، ود: يوسف الشرافي، ود: عبد السميع العرابيد، وأ:مشير المصري... وغيرهم ممن سعدنا بسماعهم لنا، وهم أحق بالحديث، وأولى بالكلام.

نساء غزة القائدات

نساء من نوع آخر عزيمة وإصرار، إيمان وثبات، تضحية وفداء، قوة وجرأة، وعي وإدراك، هم وهمة، ألم وأمل، تلك هي بعض الكلمات التي تستحقها نساء غزة.

جئن بالعشرات يستمعن إلى السادة العلماء، وحاول العلماء إقناعهن بأنهم جاءوا مستمعين لا متحدثين، وما جاءوا معلمين وإنما جاءوا متعلمين ، وأبت الأخوات الكريمات إلا أن يسمعن بعض النصائح وقد كان.

وكان أول ما تلقاه العلماء قنبلة مدوية، وصاروخ ليس من طراز أرض أرض ولا أرض جو، ولكنه من طراز إسلامي أصيل، صنع في المدرسة الإسلامية، أطلقته أحد الأخوات ، وكانت مكونات القذيفة أو الصاروخ كلمتين لا ثالث لهما: لماذا تأخرتم؟

وكان السؤال كالصاعقة، وتلعثم السادة العلماء، وتلاصقت الشفاه، وسكنت الألسنة، وجف الحلق، وضاعت الكلمات، وعجزت العبارات، ولم يستطع واحد من العلماء أن يرد القذيفة أو يبتعد عن شظايا هذا السؤال الصاروخي.

وهنا أقر الجميع بأننا تأخرنا ولكن الحمد لله وصلنا، وأنه لولا حكومة ظالمة، وأنظمة فاجرة، وحصار غاشم، وعدو ظالم، ما غمض لنا جفن حتى نعيد لإخواننا البسمة، ونفك عنهم الحصار، وحسبنا أنا ما تركنا وسيلة من وسائل البلاغ منبرا كان أو صحيفة، قلما كان أو قناة إلا وذكرنا الأمة بمصاب إخواننا في فلسطين عامة وبحصارهم في غزة خاصة.

وكانت المفاجئة أن الحاضرات يطالبن بدور أكبر لهن، وأنهن ما جئن يبحثن عن عيش أرغد ولا حياة أسعد، وإنما كان السؤال عن كيفية الارتقاء بهن، وعن كيفية إتمام الدراسة ، وطلب العلم وعن دورهم في المؤسسات والروابط العالمية كرابطة أهل السنة، ورابطة تلاميذ القرضاوي وكيفية حصولهن على درجة الدكتوراه لمن حصلت على الماجستير ، والماجستير لمن لم تحصل عليه. فأكبرت فيهم الهمة، وأعظمت فيهم الإرادة، وقلت في نفسي:

إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجساد

فى مساجد غزة

أراد إخواننا فى رابطة علماء فلسطين أن تكون لنا لقاءات فى مساجد غزة، وهنا كانت المفاجأة الكبرى حيث المساجد غير مساجدنا، وروادها غير رواد مساجد الأمة، إنها مساجد اكتظت بالحضور، ولكنه حضور من نوع فريد، شباب يافع، يجمع بين قوة الإيمان وقوة الساعد، وبين طهارة القلب ونقاء الروح. شباب متعطش للعلم، محب العلماء، مقبل على الله تعالى.

إنها الساحة التى تربى فيها أبناء المقاومة قبل أن يلجوا ساحة القتال وميدان القتال، فربوا أولا على موائد القرآن والسنة قبل أن يرمى بهم فى ساحات الوغى.

وتذكرت ساعتها وأنا أرى جموع الشباب وقد جثت على ركبها واشرأبت أعناقها، تذكرت ما قاله الشاعر محمد حوطر رحمة الله عليه:

سلوا الشباب شباب العصر كم حفظوا من سورة العصر أو من سورة القلم
وكم حديثا لخير الخلق قد فهموا وهو المصدَّق بعد الوحى فى الكلم
والراشدون نسوا أسماءهم وهمُ كالشمس فى الغيم أو كالبدر فى الظلم
لكنهم حفظا الأفلام ماجنة لحنا ومعنى وتمثيلا بلا سآم
وفى المقاهى جموع لا تصدقها وفى المساجد لا تلقى سوى الهرم
قلت والله يا شاعرنا لو رأيت ما رأيت، لقلت غير ما قلت. فقد ملأ الشباب في غزة بيوت الله.

حدث في حفل تكريم الأسرى المحررين

كان الترتيب أن أحاضر أنا وأخى الكريم الشيخ أسامة أبو بكر من علماء الأردن فى مسجد المحطة بمنطقة التفاح وهي إحدى مناطق غزة، ومن محاسن القدر أن يكون بالمسجد حفل تكريم للأسرى المحررين وكان عددهم تسعة، وتحدث كل واحد منهم فى عجالة سريعة عن سبب اعتقاله ومحكوميته والمدة التى قضاها، وكان مقدم الحفل يحاورهم وهم يجابون واحد تلو الآخر، وكان العجب العجاب، فأحدهم حكم عليه بمؤبدين وآخر بثلاثة وثالث بأربعة... ومنهم من حكم عليه بتسع مؤبدات.

وكانت المفاجأة لي أن المؤبد لدى الكيان الصهيونى 99سنة، وهذا يعنى أن صاحب التسعة مؤبدات سيقضى ألف سنة إلا قليل, ولكن شاء الله أن يقضي هؤلاء من أحكامهم أقلها، وحقق الله لهم آمالهم بعد أن خيب ظن اليهود الغاصبين، الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد.
وكانت كلمات هؤلاء الإخوة المحررين على بساطتها كلمات معبرة خرجت من القلوب فلامست القلوب وأجرت الدموع وحركت المشاعر والأحاسيس.

وجلست أستمع إلى هؤلاء الإخوة وكلما تحدث أحدهم ازدادت حيرتي في اختيار موضوع للحديث لكلمات الموضوع وما أن انتهى الإخوة الكرام الا وجدت نفسى مصمما على تقبيل روؤسهم، وقد كان.. ثم وجدتني أتحدث عن الفرح، نعم الفرح... الفرح بنعمة الإيمان، ونعمة الثبات، ونعمة النصر، ونعمة الإخوة.... كل هذه النعم التي تملأ قلوب أهل غزة، وما لهم في هذه النعم من فضل، وإنما هو محض فضل الله وكرمه، وذكرتهم بقوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، وبقوله جلّ شأنه:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، وحضر بخاطري كلام ابن عطاء الله السكندري إذ يقول في بعض حكمه: لا تفرحك الطاعة لأنها برزت منك وافرح بها لأنها برزت من الله إليك، ووجدت أن إخواننا بحاجة إلى هذا المعنى، لأن ما هم به من ثبات وصبر وعطاء وتضحية فهو من الله تعالى.

أشباه جعفر وطلحة وأبي عبيدة

كان من أفضل الفقرات التي عشناها في غزة لقاؤنا بالمصابين، هؤلاء الذين فقدوا بعض أطرافهم، فمنهم من فقد عينه، ومنهم من فقد رجليه، ومنهم من فقد يديه، ومنهم... ومنهم... ومنهم، وأحسب أنه يصدق فيهم قول الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } [الأحزاب: 23] أحسبهم كذلك ولا أزكيهم على الله تعالى.

لقد رأينا أشباه جعفر وطلحة وأبي عبيدة.... وغيرهم ممن أصيبوا في سبيل الله، وجلسنا نستمع إلى أروع القصص وأحسن البطولات من أصحابها الحقيقيين، وأعجب ما كان من هؤلاء أن تسمع في بداية حديث كل واحد منهم: الحمد لله سبقني جزء من إلى الجنة، مرددين ما قيل لعروة بن الزبير يوم أن قطعت قدمه: يا عروة أبشر جزء من جسدك سبقك إلى الجنة، فقال عروة: والله ما عزاني أحد بأفضل من هذا العزاء!

حتى إذا أراد أحدهم إنهاء حديثه لم ينس أن يختمه بما بدأ فيعود قائلا: الحمد لله رب العالمين.

ومن هذا القصص الرائع والبطولات النادرة أن أحدهم كان من أبطال معركة الفرقان، يقول: جاءتني قذيفة في الضربة الأولى التي ألقيت على جنود وزارة الداخلية وأصبت العشرات والعشرات، وأصبتني إحدى القذائف فقطعت ساقي وأنظر إليها، وشاء الله ألا أفقد الوعي، وأخذت أنظر إلى قدماي وقد انفصلتا عني... فكان أو ما خطر في بالي ألا أضيع مصابي بالضجر والجزع، والا أضيع ثانية واحدة، وتذكرت قول النبي : "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، فقلت والله لأصبرن ولأصبرن، ولأشغلن نفسي بذكر الله عز وجلّ، وظلّ لساني يردد كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) وما أجملها، وكان أنسي بترديدها لا يعادله أنس، وظللت على هذا الحال ساعات، وإخواننا لا يستطيعون المجيء إلينا من شدة ما يلقيه العدو من قذائف، فلم أمسك العدو قصفه، وقلت نيرانه المقذوفة، قدم إخواننا إلينا يحملون القتلى ويسعفون الجرحى، وحملوني على أنني واحدا من المتى، فلما أدركوا حركة مني ظننوا أودع الحياة فقال متعجلين متسرعين: قل: (لا إله إلا الله)، قل: (لا إله إلا الله)، قل: (لا إله إلا الله)، قل: (لا إله إلا الله)... فقلت لهم مهلا ما هكذا تقال. قالوا: فكيف تقال؟ قلت تقال هكذا: قل: (لا إله إلا الله) عليها نحيا وعليها نموت وفي سبيلها نجاهد وعليها نلقى الله، وأخذت أرددها بكل طمانينة وتؤدة، وأعطي كل حرف حقه كأنني أنشد نشيدا، أو أرتل قرآنا...

ومرّت الأيام، وعولج الأخ المصاب، لكنه أبى إلا أن يكون مجاهد، على الرغم من أن الله وضع عنه الجهاد، وعذره بما أصابه، وهو القائل: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } [الفتح: 17]، لكنه صمم إلا أن يكون في كتائب الجهاد مرابطا في سبيل الله تعالى، وبحث له الإخوة المجاهدين عن عمل يتناسب مع وضعه الجديد، فوجدوا وما زال مرابطا في سبيل الله ليقول للمخلفين والمثبطين والمعوِّقين: دعونا نعمل واكفونا تخاذكم يفتح الله لنا إن شاء الله.

وأما النموذج الثاني فهو أحد مصابي معركة الفرقان، وهو شاب في مقتبل العمر، قبل العشرين أو بعدها بقليل، وهو ابن الأخ الكريم المجاهد فوزي برهوم، جاءته رصاصة في إحدى عيينه ففقأتها، لكنني فوجئت أثناء وبعد إلقاء دورة في السياسة الشرعية في مسجد المحطة بمنطقة التفاح بشاب يوثق المحاضرة بكاميرته. فعرفني الإخوة به، وذكروا لي قصته، فتعجبت من تصميم هذا الفتى كيف يصّر على أن يكون له دور في العمل الدعوي ولو بتوثيق مثل هذه المحاضرات أو الدورات، على الرغم من فقد إحدى حبيبيته، لكن عزاءه قول النبي :"مَنْ أَذْهَبْتُ حَبِيبَتَيْهِ، فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ، لَمْ أَرْضَ لَهُ بِثَوَابٍ دُونَ الْجَنَّةِ"، أما نحن فلا أدري ما هو عزاؤنا؟؟!

عيون ساهرة في رباط وجهاد

رتب الإخوة لنا زيارات ميدانية نلتقي فيها بالمجاهدين المرابطين، وهناك كان العجب أيضا، رأينا شبابا يتلألأ النور من جباههم، ويشع الإيمان من قلوبهم، ويتساقط العسل من طيب كلامهم. شباب يذكروك بالله إن رأيت عيونهم الساهرة، ويشعروك بالطمأنينة إن أحسست بقلوبهم المرابطة، ويملؤا قبلك فخرا واعتزازا إن سمعت كلماتهم الساحرة.

إنها كلمات بسيطة لكنها خرجت من القلوب فلامست القلوب، تتعرف عليهم فيبهرك تعارفهم، وقد ابتدأ كل واحد بتعريف نفسه بكنيته ثمّ ثنى باسمه وثلث بعمله، لكنه لا ينسى ان يذكرك بالمسجد الذي ينتمي إليه، فتذكرت قول شيخنا القرضاوي:

لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السـلاح
وصناعة الأبطال علـم في التراث له اتضـاح
من لم يلقن أصله من أهلـه فقـد النجـاح
لا يصنع الأبطـال إلا في مساجدنا الفسـاح
في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح

القائد الفذّ

وكان ولا بد أن يكون لنا لقاء بالقائد البطل إسماعيل هنية، الرجل الذي جمع بين العلم والسياسة، والقلم والسنان، والمنبر والبندقية، الرجل الذي يحمل في جنباته هموم أمة، فهو لا يحمل هم غزة فحسب، ولا هم فلسطين فقط وإنما يحمل هم أمة بأثرها.

التقينا بالرجل فرأيناه عزيزا في غير كبر، ومتواضعا في غير مذلة، يجمع بين الهيبة والاحترام، والفكر والرأي، فليس مجرد صورة فارغة، ولا مجرد متحدث يجيد الكلام، وإنما هو رجل يعرف متى يتكلم ومتى يسكت، متى ينصت ومتى يزأر، متى يبتسم ومتى يقضب عن جبينه... وتلك والله هي القيادة الناجحة.

خلاصة القول

وخلاصة القول: ان ما رأيناه في غزة يتخلص في نقاط عدة:

1. قيادة ناجحة تمثلت في قادة قدموا كما قدم الشعب، فلم يعيشوا في أبراج عاجية تاركين شعبهم يعاني الجوع والبؤس والحرمان، ويقابل الرصاص بصدوره العارية، وإنما جاعوا كما جاع شعبهم، وبذلوا كما بذل قومهم، فاستشهد منهم ياسين والرنتيسي وصيام وريان، وقدم الزهار ولده وأبو راس ولده، وأوبو زهري أخاه... وغيرهم كثير. وكم هزتني تلك الكلمة الرائعة التي قالها أخي الدكتور المجاهد: مروان أبو راس حين جاءه الناس معزين في ولده، ويصبرونه بأن ولده سيشفع له عند ربه، فقال بلسان كل آباء الشعداء: نحن لا نريد أن يشفع لنا أبناؤنا وفقط، وإنما نريد أن نشفع نحن كذلك لآبائنا.

2. جنود مخلصون رأت في قيادتها التواضع والإخلاص، فأبت إلا أن تقابل الكرم بالعطاء، والتضحية بالفداء، والصبر بالثبات، فتحملت الجوع، وتجرعت الألم، واكتوت بنار العدو لكنها ما لانت لها عزيمة، ولا ضعفت لها قناة.

3. هدف سام، أما الهدف الذي نادت به القيادة وأصغت له الجنود فهو الأقصى الذي يحلم به كل صغير وكبير، كل ذكر وأنثى، كل شيخ وعجوز، كل شاب وفتاة، وفي تحريره حدد القادة والجنود طريقين: إما النصر وإما الشهادة، وهم يردون قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ } [التوبة: 52].

4. تضحية بكل غال ونفيس، وفي هذين الطريقين لم يبخل القادة ولا الجنود لا بالمال ولا بالولد، وأما النفس فما أرخصها، وقد جعلوا شعارهم:

ساحمل روحي على راحتي والقي بها في مهاوي الردى
فاما حياة تسر الصديق واما ممات يغيظ العدا
ونفس الشريف لها غايتان ورود المنايا ونيل المنى
وما العيش لا عشت ان لم اكن مخوف الجناب حرام الحمى
اذا قلت اصغى لي العالمون ودوى مقالي بين الورى
لعمرك اني ارى مصرعي ولكن اغذ اليه الخطى
لعمرك هذا ممات الرجال ومن رام موتا شريفا فذا
فكيف اصطباري لكيد الحقود وكيف احتمالي لسوم الاذى

وأخيرا...

فأقول لأمتنا العربية وأمتنا المسلمة: لا تخافوا على إخوانكم في غزة وفي فلسطين، فهم على قدر المسؤولية، ولكن خافوا على أنفسكم حين تنسوهم بالدعاء أولا، وبالإمداد ثانيا، وبالذب عنهم ثالثا.

إن إخواننا في فلسطين عموما وفي غزة خصوصا ليسوا بحاجة إلى رجال يذبون عن الأقصى أذى بني صهيون، فهم والله أسد غاب، لكنهم في حاجة إلى ما ذكرته سابقا: دعاء وإمداد بالمال، وذب عنهم في وسائل الإعلام.. فالله الله في إخوانكم يا مسلمين.

وأما أنتم يا أهل فلسطين وأسد غزة فالله معكم والله ناصركم والله حافظكم والله مؤيدكم، وهو القائل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].

جبل يدعى حماس
سأموت ولكن لن ارحل
يا رب انت العالم
يوم تجثو كل أمّــة
علم .. مقاومة .. حرية

الشبكات الاجتماعية

تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية

القائمة البريدية