غزة تحتفي بذكرى انتفاضة الحجارة
د. عدنان أبو عامر
لن يكتمل إحياء الذكرى السنوية الـ26 لانتفاضة الحجارة هذه الأيام إلا بالحديث عن قطاع غزة، المهد الأول لها، والمفجر الحقيقي لمعظم الحراك الثوري والكفاحي والجهادي الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وهنا يجدر الحديث سريعاً أن أهمية قطاع غزة بالنسبة لـ(إسرائيل) لم يكن موضوعا مجمعا عليه داخل المجتمع السياسي والعسكري فيها، بل موضع خلاف، وخلاف شديد داخلها، وتبين ذلك من خلال البرامج الانتخابية والتصريحات العلنية، وتجسد بشكل واضح بعد انطلاق انتفاضة الحجارة، فقد برزت آراء إسرائيلية عديدة ترى أنه لا يوجد في القطاع أراض ذات قيمة تذكر، فلا يوجد فيه جبل مسيطر على محيطه من الناحية الإستراتيجية، أو نقطة رقابة لمتابعة تحركات جيوش معادية، وليس لليهود فيه أي صلات تاريخية.
بل إن أحد الصحفيين الإسرائيليين تساءل: "من من اليهود بحاجة لهذه الرمال في غزة، بكل ما فيها من كراهية؟ وما الذي يساوي فيها حياة يهودي واحد؟ ولعل ذلك ما يفسر رد "شمعون بيريس" وزير الخارجية إبان اندلاع الانتفاضة على رئيس الوزراء الراحل "إسحاق شامير" الذي طالب بضرورة الاحتفاظ بغزة، كونها جزءا لا يتجزأ من (إسرائيل)، بقوله: يوجد الآن في غزة 600 ألف يعيش نصفهم في مخيمات اللاجئين، تضاعف عددهم منذ عام 1956، وخلال 12 عاما سيصبحون مليوناً، فهل قصد "شامير" أن هذا المليون في القطاع لا يمكن فصله عن (إسرائيل)؟
فيما قال المحلل العسكري "زئيف شيف": إن إحدى المشاكل المعقدة للغاية تكمن في أن غزة، قنبلة بشرية موقوتة، حتى لو لم تكن هناك أسباب فلسطينية وطنية، ورغبة شديدة من السكان في التحرر من الاحتلال، ستأتي لحظة تنفجر فيها هذه القنبلة، لأسباب ديمغرافية واقتصادية، وبسبب البنية التحتية المتداعية، مما أوصلني لنتيجة أنه سيأتي علينا يوم نتوسل فيه كي يأخذ منا أحد ما، هذا القطاع بمشاكله!
وهناك في الرأي العام الإسرائيلي من يميز وضع غزة عن الضفة الغربية ومكانتها، ففوائد الأولى لا تضاهي بأي قدر فوائد الثانية، وكذا أضرارها، وفي الغالب، فإن الواقع والحلم الصهيونيين على حد سواء، لا يقبلان بغزة إلا على سبيل"القط الذي يعرض مع الجمل"،*** يكن بوسع (إسرائيل) إلا أن تأخذ غزة عندما أخذت سيناء، وما كان بوسعها أن تلقمها لمصر عندما استرجعت سيناءها، بحيث ربط مصير غزة بمصير الضفة، وإن كان على مضض من واقع الصهيونية وحلمها.
وعند اندلاع انتفاضة الحجارة في غزة، التي عاشها كاتب هذه السطور يوماً بيوم، وساعة بساعة، طرحت أسئلة عدة،أهمها:لماذا كانت البداية في غزة؟ ولم بلغ فيها هذا الحجم من "العنف" الذي ميزها عن بقية المناطق المحتلة، ونتج عنه عدد كبير من الضحايا؟
لقد كمنت الإجابة في التعرف على الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والديمغرافية الخاصة التي ميزت القطاع، وتطورت على امتداد سنوات عمر الاحتلال، وهي في بعض جوانبها معطيات عامة، يمكن احتسابها في عداد الأسباب الكامنة وغير المباشرة للأحداث التي شهدتها عموم المناطق المحتلة.
لكن غزة شكلت حالة استثنائية على كل المستويات: بما صنعه فيها التاريخ والجغرافيا، وما صنعه فيها الاحتلال، وبما أنتجته عقود من تفاعل الاحتلال والمقاومة مع كثافة سكانية، وشح خطير في الموارد، وكيفما نظر المرء لأوضاع غزة: سياسيا، اقتصاديا، بشريا، واجتماعيا، يقف مذهولا أمام واقع لا تكفي لوصفه كلمة مأساوي أو كارثي، ومستغربا كيف تستمر الحياة فيه، فمن الاحتلال الكامل إلى التطويق والحصار الخانق، تزداد الظروف سوءا وتعقيدا.
وظلت غزة بانتفاضتها قنبلة موقوتة معرضة للانفجار في أي وقت، فمع اكتظاظها بالسكان، ومخيمات اللاجئين وسوء الأحوال الاقتصادية، كانت أنشطة المقاومة تسبب للاحتلال مشاكل مستمرة فيها، وعندما وقع حادث يوم 8/ديسمبر، لم يتوقع أحد أن هذا اليوم سيسجل في التاريخ بداية مرحلة حاسمة في مسيرة القضية الفلسطينية.
كل ذلك يعني أن انتفاضة الحجارة لم تأت من فراغ، بل سبقتها مقدمات سياسية واجتماعية واقتصادية، وهي بهذا المعنى ليست فعلا خارجيا، أي حركة إلقاء حجارة وإشعال إطارات وامتناع عن دفع الضرائب، وعصيان مدني فحسب، بل هي نسيج داخلي وبنية متكاملة، تضافر فيها الوعي مع التطور، وعبرت عن المخاض والولادة الشعبية للمرحلة الجديدة، وجاءت تعبيرا عن هدف الاستقلال..كل عام وغزة والانتفاضة بألف خير..
د. عدنان أبو عامر
لن يكتمل إحياء الذكرى السنوية الـ26 لانتفاضة الحجارة هذه الأيام إلا بالحديث عن قطاع غزة، المهد الأول لها، والمفجر الحقيقي لمعظم الحراك الثوري والكفاحي والجهادي الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وهنا يجدر الحديث سريعاً أن أهمية قطاع غزة بالنسبة لـ(إسرائيل) لم يكن موضوعا مجمعا عليه داخل المجتمع السياسي والعسكري فيها، بل موضع خلاف، وخلاف شديد داخلها، وتبين ذلك من خلال البرامج الانتخابية والتصريحات العلنية، وتجسد بشكل واضح بعد انطلاق انتفاضة الحجارة، فقد برزت آراء إسرائيلية عديدة ترى أنه لا يوجد في القطاع أراض ذات قيمة تذكر، فلا يوجد فيه جبل مسيطر على محيطه من الناحية الإستراتيجية، أو نقطة رقابة لمتابعة تحركات جيوش معادية، وليس لليهود فيه أي صلات تاريخية.
بل إن أحد الصحفيين الإسرائيليين تساءل: "من من اليهود بحاجة لهذه الرمال في غزة، بكل ما فيها من كراهية؟ وما الذي يساوي فيها حياة يهودي واحد؟ ولعل ذلك ما يفسر رد "شمعون بيريس" وزير الخارجية إبان اندلاع الانتفاضة على رئيس الوزراء الراحل "إسحاق شامير" الذي طالب بضرورة الاحتفاظ بغزة، كونها جزءا لا يتجزأ من (إسرائيل)، بقوله: يوجد الآن في غزة 600 ألف يعيش نصفهم في مخيمات اللاجئين، تضاعف عددهم منذ عام 1956، وخلال 12 عاما سيصبحون مليوناً، فهل قصد "شامير" أن هذا المليون في القطاع لا يمكن فصله عن (إسرائيل)؟
فيما قال المحلل العسكري "زئيف شيف": إن إحدى المشاكل المعقدة للغاية تكمن في أن غزة، قنبلة بشرية موقوتة، حتى لو لم تكن هناك أسباب فلسطينية وطنية، ورغبة شديدة من السكان في التحرر من الاحتلال، ستأتي لحظة تنفجر فيها هذه القنبلة، لأسباب ديمغرافية واقتصادية، وبسبب البنية التحتية المتداعية، مما أوصلني لنتيجة أنه سيأتي علينا يوم نتوسل فيه كي يأخذ منا أحد ما، هذا القطاع بمشاكله!
وهناك في الرأي العام الإسرائيلي من يميز وضع غزة عن الضفة الغربية ومكانتها، ففوائد الأولى لا تضاهي بأي قدر فوائد الثانية، وكذا أضرارها، وفي الغالب، فإن الواقع والحلم الصهيونيين على حد سواء، لا يقبلان بغزة إلا على سبيل"القط الذي يعرض مع الجمل"،*** يكن بوسع (إسرائيل) إلا أن تأخذ غزة عندما أخذت سيناء، وما كان بوسعها أن تلقمها لمصر عندما استرجعت سيناءها، بحيث ربط مصير غزة بمصير الضفة، وإن كان على مضض من واقع الصهيونية وحلمها.
وعند اندلاع انتفاضة الحجارة في غزة، التي عاشها كاتب هذه السطور يوماً بيوم، وساعة بساعة، طرحت أسئلة عدة،أهمها:لماذا كانت البداية في غزة؟ ولم بلغ فيها هذا الحجم من "العنف" الذي ميزها عن بقية المناطق المحتلة، ونتج عنه عدد كبير من الضحايا؟
لقد كمنت الإجابة في التعرف على الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والديمغرافية الخاصة التي ميزت القطاع، وتطورت على امتداد سنوات عمر الاحتلال، وهي في بعض جوانبها معطيات عامة، يمكن احتسابها في عداد الأسباب الكامنة وغير المباشرة للأحداث التي شهدتها عموم المناطق المحتلة.
لكن غزة شكلت حالة استثنائية على كل المستويات: بما صنعه فيها التاريخ والجغرافيا، وما صنعه فيها الاحتلال، وبما أنتجته عقود من تفاعل الاحتلال والمقاومة مع كثافة سكانية، وشح خطير في الموارد، وكيفما نظر المرء لأوضاع غزة: سياسيا، اقتصاديا، بشريا، واجتماعيا، يقف مذهولا أمام واقع لا تكفي لوصفه كلمة مأساوي أو كارثي، ومستغربا كيف تستمر الحياة فيه، فمن الاحتلال الكامل إلى التطويق والحصار الخانق، تزداد الظروف سوءا وتعقيدا.
وظلت غزة بانتفاضتها قنبلة موقوتة معرضة للانفجار في أي وقت، فمع اكتظاظها بالسكان، ومخيمات اللاجئين وسوء الأحوال الاقتصادية، كانت أنشطة المقاومة تسبب للاحتلال مشاكل مستمرة فيها، وعندما وقع حادث يوم 8/ديسمبر، لم يتوقع أحد أن هذا اليوم سيسجل في التاريخ بداية مرحلة حاسمة في مسيرة القضية الفلسطينية.
كل ذلك يعني أن انتفاضة الحجارة لم تأت من فراغ، بل سبقتها مقدمات سياسية واجتماعية واقتصادية، وهي بهذا المعنى ليست فعلا خارجيا، أي حركة إلقاء حجارة وإشعال إطارات وامتناع عن دفع الضرائب، وعصيان مدني فحسب، بل هي نسيج داخلي وبنية متكاملة، تضافر فيها الوعي مع التطور، وعبرت عن المخاض والولادة الشعبية للمرحلة الجديدة، وجاءت تعبيرا عن هدف الاستقلال..كل عام وغزة والانتفاضة بألف خير..
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية