بقلم النائب د. محمود الرمحي - أمين سر المجلس التشريعي الفلسطيني – من المعروف عن الكيان الغاصب استعلائه على كافة الأعراف والمبادئ الإنسانية والقانونية وكافة المواثيق الدولية، وذلك لأن دولة الكيان الصهيوني هي الابنة المدللة للغرب، لا سيما الولايات الأمريكية بزعمائها المتعاقبين مع تساوق الأمم المتحدة وما يسمى بمجلس الأمن، فالمصالح مشتركة ووجود أي طرف من هذه الأطراف مرتبط بوجود الطرف الآخر. ولكن مع كل هذه القوى الداعمة للكيان ومع كل جبروت الولايات الأمريكية، إلا أننا نشهد في هذه الأيام هرولة واستخداماً للعصا دون الجزرة نحو المفاوضات مع الطرف الفلسطيني، بطبيعة الحال من يطلب المفاوضات يكون عادة هو الطرف الأضعف، إلا أن الأمر هنا قد اكتسب بعض الخواص الإضافية التي غيرت هذه الفرضية، فالطرف القوي بالمعنى المادي " الجانب الصهيوأمريكي" هو من يصر على المفاوضات ويجبر الطرف الضعيف" المفاوض الفلسطيني المسكين" عليها، وذلك يعود لمستوى الهوان الذي وصل إليه المفاوض الفلسطيني فأمسى يستخدم مطية يمتطى حسب المصالح الصهيونية والأمريكية وبالطريقة التي يريد.
التساؤل المطروح هو أن الكيان الغاصب قادر في الوقت الراهن على أن يعطي الطرف الفلسطيني ما يريد من " دولة " بالحدود التي يحدد والصلاحيات التي يريد على غرار الانسحاب الأحادي تحت ضربات المقاومة من قطاع غزة الصامد، فلماذا يسعى إلى المفاوضات ويصر على اللقاءات المباشرة مع الطرف الفلسطيني، ويسخر لذلك كل الدعم الدولي والعربي، فلا بد أن هناك أهدافاً للكيان غير تلك الأهداف التي يظهرها للإعلام من إيجاد حل للصراع في المنطقة.
على صعيد الكيان الصهيوني فهناك أهداف متعددة من هذه الهرولة نحو المفاوضات منها:
أولاً – إن الكيان الصهيوني في هذه الأيام يعيش مآزق متعددة على الصعيد المحلي والدولي، قد تراكمت عليه بعد حرب الفرقان في غزة المنتصرة، فعلى الصعيد المحلي للكيان فهو يعاني من أثار الفشل العسكري الذي تكبده في غزة خصوصا أنه يأتي بعد ذات الفشل الذي تجرعه أمام المقاومة اللبنانية، كما أنه يعيش أزمة فشل الحصار على قطاع غزة وفشله في إعادة الجندي الأسير بعد أربع سنوات من الأسر إضافة إلى الكثير من الأزمات الداخلية، وعلى الصعيد الدولي يواجه الكيان قرب قطيعة دولية بعد فضيحة اغتيال القائد القسامي الشهيد المبحوح، والحصار الذي ضرب على قياداته من دخول بعض الدول الأوروبية، إضافة إلى مجزر أسطول الحرية وما ينتظره من لجنة تحقيق دولية التي إذا ما كتب لها أن ترى النور فستكون النتيجة إدانة للاحتلال، كما أن بعض الأصوات الأوروبية المناهضة للسياسات الصهيونية ومطالبتها بالانفتاح على حركة حماس بدأت بالارتفاع، فالكيان يريد من المفاوضات أن يقول للعالم أن مسيرة السلام مستمرة والصراع في طريقة إلى الزوال فهو بذلك يستجدي تخفيف الضغط الواقع عليه بذلك الثمن البخس المسمى مفاوضات .
ثانياً- يقوم الكيان الغاصب في هذه الأيام بجرائم بحق الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته لا سيما التهويد المتسارع لبيت المقدس وطرد سكانه والاستيلاء على أملاك المقدسيين بالقوة وليست قضية النواب المقدسيين المهددين بالإبعاد الذين يخوضون الشهر الثاني من الاعتصام في مكاتب الصليب الأحمر ببعيدة عن هذا الواقع، إضافة إلى القصف المستمر لمنازل المواطنين في غزة والاغتيالات المتلاحقة وحملات الاعتقال المسعورة وتجريف الأراضي والاستمرار ببناء جدار الفصل العنصري، وكوارث الاحتلال بحق فلسطين كبيرة لا يمكن حصرها في سطور، فالكيان يريد بالمفاوضات إبعاد الأنظار عن حقيقة هذه الجرائم وتغطيتها بغربال المفاوضات المباشرة ليصبح الحديث عن المفاوضات ونتائجها هو القضية الفلسطينية بعيداً عن كل ما لحق وما سيلحق بالشعب الفلسطيني نتيجة لهذه المفاوضات.
ثالثاً- من المعلوم أن حكومة الكيان المحتل تجمع متناقضات اليمين " الإسرائيلي " المتطرف فلكل جزء من هذه الحكومة طريقته في الصراع مع الفلسطينيين، فمنهم من يريد إبادة الشعب الفلسطيني ومنهم من يريد هدم المسجد الأقصى ومنهم من يدعو إلى ترحيل الشعب الفلسطيني وإيجاد الوطن البديل على حساب الأردن ومنهم من يرى في فلسطين أرض الميعاد ووطن الشعب " اليهودي" المختار، إضافة إلى وجود المعارضة خارج هذه الحكومة التي تعيب على نتنياهو سوء إدارته السياسية لملف التسوية وتعد عليه إخفاقاته، فنتنياهو يحاول أن يرضي جميع هذه الأطراف ليظل متربعا على عرش الحكومة، فهو يهود القدس ويستمر في الاستيطان ويدعم القرارات العسكرية التي تنص على ترحيل الشعب الفلسطيني ويسمح بالاقتحامات المتتالية للمسجد الأقصى وهاهو يسير في طريق المفاوضات من أجل المفاوضات فهو بذلك يحصل على رضا الأحزاب الصهيونية ويضمن إطالة عمر حكومته المتداعية .
هذا بالإضافة إلى الكثير من الأهداف التي ستظهر تباعاً فبني إسرائيل لا يؤمن مكرهم وهذا ما أُخبرنا به منذ فجر الإسلام، أما عن الأهداف التي ينتظر أن يجنيها أوباما ومن دار في فلكه من مجلس الأمن والأمم المتحدة فليست بعيدة عن المصالح الصهيونية إضافة إلى المصالح الشخصية :
أولاً – من المعلوم أن أوباما يعيش مأزق الفشل لبرنامجه الذي انتخب بناءً عليه، فهو يدعي التغيير إلا أنه لم يحدث جديداً في السياسات الأمريكية الداخلية والخارجية، فهو لم يستطع إنقاذ بلاده من الأزمة الاقتصادية لغاية الآن كما أنه لم يستطع إحداث تقدم في الحروب التي يخوضها في العراق وأفغانستان بل يزداد وضعه سوءاً يوما بعد يوم، كما أنه مقبل على انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، فالرجل يبحث عن مادة دعائية يذهب بها إلى جمهوره كانجاز يحارب به استطلاعات الرأي التي تنذر بهزيمة أو انخفاض في مستوى تمثيله كحد أدنى، فلم يجد أوباما هدفا سهلاً سريع الحصاد من أن يزجي برسالة تحمل ستة عشر تهديداً إلى الرئيس الفلسطيني سميت زوراً وبهتانا برسالة " تطمينات" يجبره فيها على العودة إلى المفاوضات وبدون أي شروط فلا وقف للاستيطان ولا تحديد للمرجعيات ولا تقدم لا في الأمن ولا الحدود فالمفاوضات بالنسبة إليه جسراً لعبور الانتخابات لا غير.
ثانياً – تعتبر المفاوضات مخرجاً للأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي أمسى مجبراً على الخروج عن الصمت المريب بعد دخول أطراف قوية سياسياً واقتصادياً على خط الخلاف مع الكيان، كدولة تركيا برئيس وزرائها أردوغان الذي نكن له كل الاحترام والتقدير، فأصبح من الصعب غض الطرف كما كان يفعل بالشعب الفلسطيني المغلوب على أمره، فالواقع يستدعي حقن تخدير لكل الضغوط على هذه الأطراف تتمثل بمفاوضات مراثونية مع المفاوض الفلسطيني.
وأخيراً قد يعتبر الهدف المشترك بين كل الأطراف آنفة الذكر هو الإبقاء على الوضع الفلسطيني بحاله السيئ من الانقسام والتفكك، فالرئيس الفلسطيني لا يملك سوى خيارين للخروج من المأزق الذي حشر نفسه بداخله وهو إما العودة إلى الشعب الفلسطيني وذلك عن طريق تحقيق المصالحة الفلسطينية، أو تحقيق تقدم في مسار المفاوضات وربما يكون في إجبار الرئيس على المفاوضات ملهاة له عن المصالحة الفلسطينية وهذا الأمر الذي ينجح به الكيان بدعم الغرب حتى الآن ولكن يجب التذكير في هذا الصدد بعدة أمور لعلها تكون عبرة :
أولاً- قبيل انتفاضة الأقصى كان أبناء المقاومة داخل سجون السلطة حيث خرجوا مرفوعي الرأس ومنهم تصدر العمل المقاوم ليلقى ربه شهيداً وكتب اسمه بمداد العز على جبين الأرض المقدسة، ومنهم من كان قد حكم أحكاما عسكرية ظالمة كالمجاهد الشهيد محمود أبو هنود الذي حكم باثني عشر عاما حينها حيث خرج من سجنه بفعل طائرات" أف 16" التي دكت سجن جنيد - الذي يضم الآن مجاهدي المقاومة المختطفين لا لذنب اقترفوه إلا أنهم عشقوا تراب فلسطين- كما كانت ذات الطائرات قد دكت مراكز السلطة الفلسطينية في مدن وطننا الحبيب- ليخرج حينها أبو هنود يحمل مصحفه من وسط الركام ويعود إلى صفوف المجاهدين ويلقى ربه شهيداً.
ثانياً – عندما تسلم الرئيس عباس رئاسة الوزراء في زمن الرئيس الراحل أبو عمار ذهب إلى القاهرة ليفاوض الفصائل الفلسطينية للتهدئة من أجل أن يأخذ فرصته للعمل السياسي وأعطي تلك الفرصة، وما زلنا نقول له وهو رئيسا للسلطة اليوم أن الشعب الفلسطيني أولى بالمفاوضات من الكيان وما زال أمامك الوقت فسارع إلى شعبك قبل أن تعود الطائرات " الإسرائيلية" لتقصف مقرات السلطة من جديد - بطبيعة الحال لا نأمل ذلك ولن يكون شعورنا إلا الحزن والمرارة إذا ما عادت الأمور إلى سابق عهدها، ولكن الكيان لن يعطيك شيء وستدور معه في حلقة مفرغة أو ستلقى نفس المصير الذي لقيه سلفك الزعيم الراحل أبو عمار .
مما تقدم يستنتج أن المفاوض الفلسطيني وضع نفسه في موضع لا يحسد عليه فقد أمسى أداة تستخدم لتحقيق المصالح الغربية والصهيونية، لان الكيان الغاصب يريد مفاوضات عدم النجاح وعدم الفشل في آن واحد، وفي نهاية المطاف سيعود المفاوض الفلسطيني بخفي حنين يستجدي الشعب الفلسطيني، والأيام حبلى وستلد يوما ما والكيان لا يريد إلا مفاوضات من أجل المفاوضات.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية