كلام فارغ!
فهمي هويدي
لا يكفي أن يقول المتحدث الرسمي باسم الخارجية المصرية إن ما نشر عن الجدار الفولازي المزمع إقامته في باطن الأرض على الحدود مع قطاع غزة "كلام فارغ". ولا يقنعنا أن يقول في أحد البرامج الرئيسية في التليفزيون إنه ليس جدارا ولا هو فولاذياً، ثم يحاول التشكيك في المعلومة عن طريق الإشارة إلى أنها خرجت من (إسرائيل). في إيحاء ضمني إلى أنها جاءت من مصدر خبيث وسيئ النية ولا يجوز لأحد منا أن نصدقه.
هذه اللغة التي تستخف بعقل المشاهد شائعة بين عدد غير قليل من المسؤولين في مصر والعالم العربي أيضا للأسف. وهم الذين اعتادوا على ألا يرد لهم أحد كلاما أو يناقشهم فيه. إذ المطلوب منا في الحالة التي نحن بصددها أن نصدق أن كل المعلومات التي وردت حول موضوع الجدار مجرد خيالات لا أصل لها من الحقيقة. تماما كما أن المطلوب منا أن نقتنع بأن هناك خطرا داهما يهدد الأمن الوطني للبلد. وذهب في ذلك أحد الخبراء العسكريين الذين تكرر ظهورهم في البرامج التليفزيونية المصرية إلى القول بأنه في الوقت الراهن فإن الخطر الذي يهدد أمن مصر مصدره غزة وليس (إسرائيل). (القناة الثانية مساء الاثنين 28/12).
هؤلاء المسؤولون والخبراء يأخذون راحتهم على شاشات التليفزيون الرسمي مطمئنين إلى أنهم في "بيتهم". وعارفين أن الذين يسألونهم لن يجادلوهم في مزاعمهم أو ادعاءاتهم، لأن الطرفين يتحدثان على موجة واحدة، ويسعيان إلى هدف واحد متفق عليه سلفا.
في واحدة من تلك البرامج شاهدت السفير حسام زكي المتحدث باسم الخارجية وهو يتحاور مع اثنين من المذيعين في التسمية البديلة للجدار الفولاذي الذي يجري بناؤه. إذ بعد أن استبعد فكرة أنه جدار، فإنه آثر أن يسميه منشأة هندسية، وقال أحد محاوريه إنه حاجز، وبعد أخذ ورد فإنهم لم يتفقوا على التسمية، ولكنهم توافقوا على أنه "شيء" ليس جدارا ولا فولاذيا ولا عازلا!
استغرق هذا الجدل العقيم بعض الوقت. حتى بدا وكأن المشكلة هي في التسمية وليست في الوظيفة. وكان واضحا أن المطلوب هو التهوين من شأنه المسألة وامتصاص الصدمة التي استشعرها كثيرون ممن تلقوا النبأ ولاحظوا الارتباك والحرج الذي وقعت فيه مصر الرسمية، منذ سربت القصة صحيفة "هاآرتس".
الجهد الذي بذل في تسفيه الحدث والتهوين من شأنه، لم يكذب المعلومات المحددة التي نشرتها الصحيفة الإسرائيلية، ووقف عاجزا أمام الصور المنشورة على شبكة الإنترنت. فقد أخبرنا التقرير المنشور بأن ثمة حائطا حديديا بدأ بناؤه على الحدود بين سيناء وغزة. يفترض أن يمتد بطول تسعة كيلومترات. وفي الوقت الراهن فإنه تمت إقامة خمسة كيلومترات و400 متر منه. وهو غير ظاهر للعيان لأنه يصل إلى عمق 18 مترا تحت الأرض. وهو مكون من ألواح من الصلب عرض الواحد منها 50 سنتيمترا وطوله 18 مترا. وهذه الألواح صنعت خصيصا في الولايات المتحدة. وهي من الصلب المعالج الذي تم اختبار تفجيره بالديناميت. وهي تزرع في بطن الأرض بواسطة آلات ضخمة تحدد مقاييسها بالليزر. وبوسع أي مواطن أن يشاهد الصفائح الفولاذية، والآلات العملاقة التي تتولى زراعتها في بطن الأرض وإحكام إقامة الحاجز أو الجدار. كما بوسعه أن يشاهد مختلف مراحل التنفيذ الأخرى. ومن الغريب والمدهش ألا يكذب المتحدث باسم الخارجية شيئا من ذلك، وإنما يقول لنا ببساطة إن كل ما قيل في الموضوع هو كلام فارغ. وأن يصر هو وغيره من "الخبراء الأمنيين" بأن المسألة بسيطة للغاية، ولا تستحق الضجة التي أثيرت من حولها. ثم يحاولون بعد ذلك التشويش علينا وإسكاتنا من خلال التلويح بعبارات كبيرة مثل الأمن القومي والسيادة الوطنية.
إنهم إذا لم يحترموا عقولنا، ولم يعلنوا عن الحقيقة بوضوح وشجاعة، وإذا لم يصوبوا أو يكذبوا المعلومات المتداولة حول الموضوع. فإن ذلك لن يخلو من فائدة، لأننا حينئذ سنعرف المصدر الحقيقي للكلام الفارغ
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية