لماذا أؤيد اتفاق الدوحة بين مشعل وعباس!
د. أسامة الأشقر
لستُ متجاوزاً حدود إيماني بأن الحق يُستعاد بمنطق القوة وقوة المنطق ، بل هو إيمان راسخ مكين ، عضدته السياحة في التاريخ وتحولاته وتجاربه الغنيّة ، ولستُ مختلفاً مع أحد ممن انتقد سيئات ظاهرة وباطنة في هذا الاتفاق ، وهي سيئات يعلمها من وقّع الاتفاق أيضاً ، وهم العارفون بمكائد السياسة وحربائية السياسيين كما يعلمها من انتقد .
وكم يَسعَدُ عقلي وقلبي أيضاً بهذا التنوع والحراك في تشخيص الواقع وإدارة القرار ومحاولات تحديد اتجاهاته بعد اتخاذه ، فهو أمر يشي بالحيوية والغنى والاحتراف أيضاً .
وكما يسوؤني أن أرى خروجاً عن المألوف في ظهور الانتقاد وشيوعه ، فإن ذاك الذي أستاء منه لا يدفعني للغضب منه ، فتلك سنّة في الإنسان المندفع في اتجاهاته وفق مجال يظنه مناسباً لتوجهاته منطلقاً من زاويته التي يراها الأصوب ، وكم هو جميل أن يستقبل المرء وهو في سدّة القيادة الانتقاد ولو كان متجاوزاً حدود المشاعر ، أن يستقبله بصدر رحب وتفهّمٍ عريض، يهضمه بهدوء ،ويتعامل معه بحكمة، ويناور في سبيل بيان هدفه الأعلى الذي بنى عليه قراره .
بإمكاني هاهنا أن أضع عشرات النكات حول هذا الاتفاق وأن أفرّغه من مضمونه بانبساط شعبيّ وكوميديّة لاذعة ، وبإمكاني أيضاً أن أكتب ألحان الغضب وأنغّمها لتبدو أكثر تأثيراً وعمقاً، وبإمكاني أيضاً أن أدوّي بخطبة حمراء تحرق اليابس الكثير وتحيط بالخضرة القليلة البادية ، ولكنني ما فعلتُ ذلك لأنني لم أرى ذلك مما يصلح الحال ويسدّد الرأي.
ولم أشأ أن أكتب في بداية الأمر لأنني رأيتُ العقل والمنطق وسلطة الاستيعاب هي الأقل حضوراً في بداية الأحداث ، ثم لما تنضج بيئة الحدث وظرفه يتحرك العقل بمعطيات متكاثرة تسمح له بنصب خيمته لينصف الحدث ويتعامل معه بحكمة وازنة.
ولستُ هنا في معرض التبرير أو الدفاع عن أحد بأن الاجتهاد في حدود المتاح والممكن من حق القائد ، وأن هذا الاجتهاد في بعض المواضع يكون قراراً لا يقبل التجاوز والاستخفاف أو التشكيك.
ولكنني أرى المشهد اليوم واجب التغيير ، أرى المشهد الكبير الذي تراجع فيه الانشغال بفعل المقاومة لظروف واقعية أفهمها ، مع بقاء القرار والجهد لإعادتها إلى المشهد ، وأرى بوضوح مدى الفشل المتتابع في إعادة فعل المقاومة إلى سياق السياسة المأخوذة بعين الاعتبار ، وأرى المشهد يتعقد أكثر بامتهان السلطة والدخول في خدماتها ، وهي السلطة التي أتمناها لكل مخلص شريف يراها نمطاً من الخدمة العامة لأفراد شعبه ومجموعهم ، ولكن هذه السلطة التي نقلت المقاومة من هامش السياسة إلى متنها أمام صنّاع القرار في الدول ، كان عليها أن تحفر مسالك التمكين للمقاومة وإشاعتها وتثبيتها لا أن تدفع أثماناً كبيرة مسحوبة من رصيدها لصالح مشروع جليل وهو خدمة الناس ولكن هذا المشروع الجليل يحتاج إلى سياق آخر للاستمرار فيه وهو الاستقرار والهدوء المُفْضِي إلى التفاهم مع العناصر المؤثرة في صياغة هذا الاستقرار ، وهو الأمر الذي قد يفضي إلى المحظور التي وقعت فيه حركة فتح نفسها .
إن المقاومة في مشروعها الكبير تحتاج من القائمين عليها أن يعطوها فروض أوقاتهم لا نوافلها ، وأن تكون في مسارات متلازمة مع خدمة الناس وتلبية حاجاتهم ، وإن احتاج الأمر أن نجعل خدمة الناس بأيدي آخرين يحملون عنا هذا العبء الآن بعد أن نظفته المقاومة وطهرت جوانبه قليلاً حين أرست فيه قواعد الشفافية والمحاسبة فهذا أوجبُ وأهم.
إن المشهد الكبير الذي أراه هو الجمود في كل شيء فينا رغم أن كل ما حولنا يتغير ، فما تزال المقاومة المباشرة مخزونة هنا ومضروبة هناك ، وما تزال آفاق السياسة تغوص في بحر الظلمات والفشل العميق والعجز الذي يدفع المرء للانتحار بقبول الواقع القبيح الذي رُسمت له مخططاته وبنيت له وقائعه.
وأرى المشهد الكبير الذي تحولنا فيه إلى واقفين على أبواب المتبرعين نسألهم الزيت والدقيق والرواتب لجيوش من العمال والعاطلين والموظفين بعد أن كنا نفتخر أمامهم بالرصاصة والبندقية والصاروخ والبذل بلا حساب حتى بأرواحنا.
إذا كان الاتفاق بين مشعل وعباس سينقلنا إلى وضع جديد سيفتح لنا نوافذ كبيرة نحو استعادة شخصية المقاومة أو ريادة الحرية والديمقراطية التي سيتجه فيها الناس حتماً إلى خُلاصة أمنياتهم بالتحرر والانعتاق من الاحتلال ، أو التخلّص المدروس من أعباء الخدمة الشاقة المضنية التي صرفتنا عن الواجب الأكبر العظيم وهو السعي نحو تحرير بلادنا ، وسأقبل بأن أدفع ثمناً شكلياً مؤقتاً يديره فلان أو فلان ممن أُحِبُّ أو أكره إذا كنتُ مطمئناً بأنني سأعود إلى سيرتي الأولى وقد خضتُ تجارب عميقة صقلتني ، سأستعين بها في تصويب مساري من جديد .
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية