لماذا امتنعت (إسرائيل) عن العملية البرية في غزة؟
د. عدنان أبو عامر
تظهر المراجعات الأولية للحرب على غزة أن (إسرائيل) لم تكن متحمسة لعملية برية، قد تكون لها تكاليف عالية، حتى لو استقر عزمها على دخول غزة آنذاك، فيجب أن يكون بعد حساب دقيق، خاصة وقد مارست القاهرة في حينه ضغوطا على حماس للموافقة على هدنة سريعة، وهبط في تل أبيب قطار جوي من دبلوماسيين يريدون وقفها، بالتزامن مع استعدادات الجيش المكثفة لتلك المرحلة.
كما أن القيادتين السياسية والعسكرية في ذروة الحرب على غزة أخذتا في الحسبان حث حماس على قبول الهدنة دون حاجة لاستعمال القوات البرية نهاية الأمر، لأن الحديث هنا ليس عن وضع "كل شيء أو لا شيء"، مع وجود مجال واسع من الإمكانات لاستعمال الوحدات على الأرض، وتوفر درجات قوة كثيرة تحت احتلال كامل للقطاع، وهذا احتمال لا أحد في (إسرائيل) كان ولا زال معنياً به.
وبعد مرور عشرة أيام على انتهاء العملية ضد غزة، بدا واضحاً أن التهديد بعملية برية بقصد فرض تسوية على حماس بشروط جيدة لـ(إسرائيل)، منطقي وضروري، لكن الخطر الكامن تمثل حينها بالانسياق وراء الخطابة الصادرة عن الساسة، و"الرؤوس المتكلمة" في قاعات التلفاز بصورة قد تنتهي لخلل استراتيجي شديد.
لكن قراءة تقييمية لأسباب عدم وصول المرحلة البرية ما يزعم أنه "التفوق النسبي"، فقد حظيت المرحلة الأولى من العملية باستغلال الجيش لمزاياه في التكنولوجيا المتطورة والتفوق الجوي المطلق والسيطرة الاستخبارية، وقد شارفت المرحلة الجوية على النفاد، بعد أن هوجم جزء كبير مما اعتبره أهدافا مهمة، من خلال بذل سلاح الجو لجهد ما ضد خلايا إطلاق الصواريخ.
لكن ما جعل الجيش يتباطأ في التوجه نحو العملية البرية فهمه الجيد أن هذه العملية ستجري في منطقة شديدة الاكتظاظ، وضغط زمني كبير، وكلما طالت هذه المرحلة أصبحت اختلالات مؤسفة، وقتل مدنيين، وتضاؤل الشرعية الدولية لاستمرار العملية، كما أن الاحتكاك على الأرض سيجعل دخول القوات البرية شديد السوء، والحاجة لحمايتها من الأخطار الكثيرة في القطاع ستقتضي استعمالا عنيفا جدا للنيران يزيد بصورة مطّردة عدد القتلى المدنيين في الجانب الفلسطيني، والضغط على تل أبيب لإنهاء الحرب.
رغم أن الكابح الأكثر تأثيرا في الحيلولة دون خروج الجيش للعملية البرية ما يوصف بـ"سياسة النيران"، المتمثلة بتوجيهات رئيس هيئة الأركان "بيني غانتس"، الذي شدد على اتباع سياسة نيران محافظة بغرض خفض المس بالمدنيين الفلسطينيين قدر المستطاع، ويجعل النيران الجوية التي يستعملها أدق كثيرا وأقل تدميرا من التي تم استعمالها في "الرصاص المصبوب"، وساعدت على توريط "إسرائيل" بتقرير غولدستون!
ومع ذلك يُشتق من ذلك نتيجة أخرى ,إشكالية، وهي أن قوة إصابة حماس ونشطائها المسلحين أقل كثيرا، وبدا واضحاً بعد انتهاء الحرب أنه حتى موجة الهجمات الشديدة الجوية لم تصنع ما يكفي لإصابة نظام حماس الدفاعي في القطاع، وبقي كثيرون من نشطائها في مواقعهم، ما كان يعني أن المقاومة التي ستتلقاها قوات الجيش عند دخولها براً ستكون أشد، وقد يزيد عدد المصابين من الجنود بحسب ذلك، وكل ذلك منح حماس شعوراً بثقة بالنفس النسبية.
في ذات الوقت، هناك من برر عدم اللجوء للعملية البرية بأن هناك فرقاً في الخطط العملياتية، فقيادة المنطقة الجنوبية كانت تستعد حتى الفترة الأخيرة لعملية في نطاق ما، وجاء التجنيد الجماعي لقوات الاحتياط الذي أجازته الحكومة، ليوجب خطة مختلفة.
وهناك موانع أخرى منعت من التوجه برا في آخر أيام الحرب تمثلت في مشكلات لوجستية، والخشية من دخول القوات في حالة من الفوضى، وقد أُثيرت هذا المخاوف في لقاءات كثيرة مع جنود وضباط الميدان تتعلق بنوع الاستعداد اللوجستي للعملية، فضلاً عن جهود كبيرة بذلها فرع التقنية واللوجستكا في التحسينات المطلوبة، خاصة عدم النظام، ونقص من الطعام الساخن والمعدات، بل عن عدم وجود طعام البتة أحيانا!
مع العلم أنه لم يحصل لدى الجيش شك بأن الدخول البري لقطاع غزة، سيجبي من الفصائل الفلسطينية ثمنا أبهظ مما ستدفعه "إسرائيل"، لكن السؤال الذي سئل آنذاك: هل في الظروف السابقة في حينه شكل استمرار المواجهة أمراً ضرورياً، مع أمل انه يمكن صوغ مخرج سياسي سريع، وهل ستُحسن ضربات أخرى لحماس توازن الردع على حدود القطاع؟
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية