مركزية الصراع العربي الإسرائيلي
فراس أبو هلال
ثمة نقاش ليس جديدا يدور في أروقة الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي حول مركزية الصراع العربي الإسرائيلي أو ما يطلق عليه البعض "القضية الفلسطينية" ولكن الجديد في هذا النقاش هو ارتفاع صوته وحدته مع اشتعال الثورات الشعبية العربية منذ نهاية ديسمبر/كانون الأول من العام 2010، حيث أصبح الإنسان العربي أكثر انشغالا بقضية الحريات، وبمستقبل البلاد التي شهدت ولا تزال تشهد حراكا شعبيا ارتكز في مجمله على قضايا مطلبية "قُطرية" في هذا البلد أو ذاك.
فهل لا يزال الصراع العربي الإسرائيلي قضية مركزية للأمة العربية؟ وما الذي يمكن أن يدفع المواطن العربي المثقل بهمومه "الوطنية" للالتفات كثيرا لما يحصل في أرض الصراع- فلسطين؟
خلفيات الجدل
قبل البداية في نقاش التساؤلات المطروحة في الجدل حول مركزية الصراع العربي الإسرائيلي، لابد من تحديد منطلقات هذا الجدل، وخلفياته، والفئات التي تطرحه، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات تختلف في أيديولوجياتها ومنطلقاتها وزوايا نظرها للمسألة.
وأولى هذه الفئات هي تلك "النخب" التي كفرت منذ زمن ليس بالقصير بالقومية وانحازت ونظرت للقطرية، ودعت في أدبياتها إلى أهمية تفرغ كل شعب عربي للبحث عن حلول لمشكلاته الداخلية بدلا من التفكير في الصراع العربي الإسرائيلي.
وقد وجدت هذه الفئة ضالتها ببعض المظاهر التي رافقت الثورات الشعبية العربية، والتي قرأها البعض على أنها دليل على تمكن الهموم المحلية من الشعوب العربية، بدليل أن الشعارات التي طرحت في المظاهرات والاحتجاجات كانت في أغلبها مسكونة بالهم الداخلي، متناسية أن الجماهير في خضم صراعها مع أنظمتها الاستبدادية لم تنس فلسطين في بعض الفعاليات والشعارات، كشعار "الشعب يريد تحرير فلسطين " الذي تغنى به التونسيون في أول احتفالاتهم بسقوط بن علي، أو أحداث السفارة الإسرائيلية في القاهرة، أو المظاهرات التي خرجت في أكثر من بلد عربي عند بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
أما الفئة الثانية فهي أولئك الشباب أو النشطاء الذين سئموا من استخدام بعض الأنظمة العربية الشمولية لقضية فلسطين كمبرر لكل أنواع الفشل على الصعيد الداخلي، وخصوصا تلك الأنظمة الأكثر بؤسا وقمعية في سوريا وليبيا/القذافي.
وتبقى الفئة الثالثة وهي تشمل بعض الإسلاميين الذين يرفعون شعارات أممية، ويرون أن فلسطين -على أهميتها الدينية المتمثلة بالقدس والمسجد الأقصى- هي بلد مسلم مثل أي بلد، ولذلك فلا يجوز إعطاؤها أهمية أكبر من صراعات وهموم إسلامية أخرى مثل قضية الشعب السوري والنزاع الشيعي السني وقضية كشمير وأفغانستان وغيرها من الأمثلة التي يعاني فيها المسلمون من صراعات واضطهاد في مختلف أنحاء المعمورة.
وبغض النظر عن الخلفيات لطرح هذا الجدل، إلا أنه يبقى جدل مشروع لابد من نقاشه بشكل علمي، خصوصا ونحن نعيش في مرحلة صناعة "النظرية" أو الأسس الجديدة للبلاد العربية في عصر ما بعد الثورات، ولهذا فإن الشعارات القومية لم تعد كافية لشرح مركزية فلسطين، إذ أن هذه المركزية ترتكز أيضا على أسس عقلانية تتعلق بقيمة "إسرائيل" الإستراتيجية للمشروع الاستعماري الغربي في المنطقة، وبكون هذه الدولة منطلقا لكثير من الصراعات العربية العربية، وبتأثيرها في صنع بعض السياسات الداخلية في دول المنطقة.
رأس الحربة
منذ إنشائها، كانت "إسرائيل" رأس الحربة في المشروع الغربي الساعي إلى تفتيت وإضعاف المنطقة، ولذلك فقد حظيت الدولة الوليدة برعاية الإمبراطورية البريطانية الآخذة في الأفول في ذلك الوقت، كما حصلت على اعتراف سريع جدا من الدولتين العظميتين الصاعدتين آنذاك أميركا والاتحاد السوفياتي.
ومع نهاية العصر الإمبراطوري البريطاني وبروز الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، أخذت هذه الدولة أهمية جديدة بالنسبة للولايات المتحدة، التي تعاملت معها كحليف إستراتيجي وأداة استعمارية في المنطقة.
وعلى الرغم من الجدل الذي شهدته الساحة السياسية الأميركية حول أهمية "إسرائيل" الإستراتيجية لواشنطن في الأربعينيات والخمسينيات، إلا أن هذا الجدل حسم بشكل شبه تام بعد نكسة حرب حزيران، حيث استطاعت تل أبيب بعد هذه الحرب أن تقنع كافة دوائر صناعة القرار في واشنطن أنها حليف يمكن الاعتماد عليه، بعد أن هزمت بشكل مهين دولتين من أهم حلفاء موسكو في المنطقة العربية وهما مصر وسوريا.
ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، تشهد الولايات المتحدة حالة قد تصل إلى الإجماع حول كون إسرائيل دولة إستراتيجية هامة في السياسة الأميركية في المنطقة، وعلى الرغم من وجود بعض الأصوات الرافضة لهذا الإجماع، إلا أنها لا تزال تمثل صوتا خافتا بمقابل الطرف الآخر، الذي لا ينظر فقط إلى أهمية "إسرائيل" في المنطقة، بل يتجاوز ذلك بوصف تل أبيب كحليف واحد ووحيد لواشنطن في الشرق الأوسط.
لقد وقفت "إسرائيل" مع الولايات المتحدة في كل حروبها، وتعاونت معها استخباريا في مجالات متعددة، وقدمت وتقدم لها تعاونا عسكريا غير محدود، بل إن واشنطن تدير قواعد عسكرية أميركية بشكل مباشرة في "إسرائيل"، كما أن الأخيرة تشكل قاعدة لتصنيع بعض الأنواع الدفاعية من الأسلحة التي استفادت منها الولايات المتحدة بعد احتلالها لأفغانستان والعراق.
وفي حربي الولايات المتحدة على العراق عامي 1991 و2003 التزمت "إسرائيل" تماما بما طلبته أميركا بعدم التدخل بهدف الحفاظ على التحالف الأميركي مع الدول العربية ضد الرئيس الراحل صدام حسين، وفي عام 1981 قصفت "إسرائيل" المفاعل النووي العراقي، وهو ما اعتبر لاحقا كمقدمة سهلت من العملية العسكرية الأميركية عام 1992 كما يرى المنظرون لأهمية إسرائيل الإستراتيجية مثل ديك تشينينائب الرئيس السابق.
استطاعت "إسرائيل" أيضا تشكيل ردع طويل المدى للدول المثيرة لقلق الولايات المتحدة وعلى رأسها سوريا والعراق قبل الاحتلال، وتولت أيضا جهود التحجيم لقوى غير حكومية مناوئة للمشروع الأميركي في المنطقة مثل حزب الله وقوى المقاومة الفلسطينية، كما أبدت استعدادها لمساعدة حلفاء واشنطن عسكريا حينما دعت الحاجة كما حصل مع الأردن عندما تعرض لتهديد سوري عامي 1970 و1971.
إن الأمثلة السابقة، وإن كان بعضها محل نقاش بين داعمي إسرائيل وأعدائها في الولايات المتحدة، إلا أنها تظهر بشكل واضح أهمية هذه الدولة المزروعة بالمنطقة في تحقيق أهداف الولايات المتحدة الأميركية الاستعمارية، التي تهدف أساسا لإضعاف أي مشروع نهضوي عربي، ولاستمرار السيطرة على منابع الطاقة في المنطقة الأغنى بالبترول عالميا.
فتش عن إسرائيل!
منذ إنشاء دول الاستقلال العربية بعد تفكيك الاستعمار الأوروبي، شهدت هذه الدول صراعات متعددة فيما بينها، ولا تزال بعض هذه الصراعات مستمرة حتى الآن.
وعلى الرغم من تعدد أسباب هذه الصراعات، إلا أن "إسرائيل" كانت حاضرة في معظم الخلافات العربية العربية بشكل مباشر أو غير مباشر، دون أن يعني ذلك أنها كانت المسؤولة عن كل العلاقات السيئة بين الدول العربية، إذ أن اختلاف المصالح بين أنظمة هذه الدول كان سببا رئيسيا آخر في الصراعات فيما بينها.
لقد كان الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي مثلا هو أحد أهم الأسباب المؤججة للخلافات بين الدول العربية، وهو الذي أدى لظهور الصراع والتضاد بين ما كان يعرف بـ" الجمهوريات الثورية التقدمية" و "الملكيات الرجعية" وأعاق قيام علاقة صحية بين هذه الدول. كما أدى التنافس أحيانا بين الدول "الثورية" نفسها على قيادة الصراع مع "إسرائيل" إلى خلافات عميقة بين هذه الدول، كالخلافات بين عبد الكريم قاسم وجمال عبد الناصر.
ولا تزال تقسيمات المحاور في المنطقة العربية، قائمة أساسا على الموقف من الولايات المتحدة والصراع مع إسرائيل، وهو الموقف الذي أدى إلى ظهور الصراعات بين ما كان يعرف بمحور المقاومة والممانعة ومحور الاعتدال، وقاد إلى حدوث خلافات جذرية في المنطقة أعاقت الوصول إلى أي نوع من أنواع التوافق بين الدول العربية.
ومن المبررات التي تدعو للقول بمركزية الصراع العربي الإسرائيلي، هو أن هذا الصراع كان أداة في محاولة بعض الدول العربية الكبيرة لتحقيق نفوذ سياسي على حساب دول أخرى، كما حصل في محاولة استخدام بعض الدول لمنظمة التحرير لتحقيق نفوذ لها في الأردن قبل حرب أيلول الأسود، أو في الاستخدام السوري لوجود المقاومة الفلسطينية في لبنان للعب في سياسة هذا البلد والسيطرة عليه لعقود طويلة.
ويبقى القول إن الصراع العربي الإسرائيلي أدى إلى خسارة أهم دولة عربية هي مصر، التي خرجت من منظومة العمل العربي بعد توقيعها لاتفاقية كامب ديفيد، ودخلت في صراعات طويلة مع الدول العربية بسبب هذا الموقف، ولم تعد حتى الآن إلى دورها المنوط بها كأكبر دولة عربية محورية، وهو الدور الذي يطمح العرب بعودته بعد أن تستعيد مصر عافيتها بفعل ثورة يناير العظيمة.
إن الصراع العربي الإسرائيلي كما تظهر الأمثلة السابقة كان سببا أساسيا في الصراعات العربية العربية، وهو ما يؤكد مركزية هذا الصراع، وأهمية إنهائه، بدلا من الدعوات "القُطرية" التي تدعو لتراجع الاهتمام به، فهذا الصراع هو أس الصراعات الأخرى، على الرغم من كل مزاعم أصحاب النظريات الشوفينية.
أثر الوجود الإسرائيلي عربيا
إضافة إلى تأثير الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية على الصراعات بين دول هذه المنطقة، فقد لعب هذا الوجود دورا سلبيا في السياسة الداخلية للأنظمة العربية، مما يؤكد مركزية هذا الصراع، وضرورة تظافر الجهود العربية لحلها بطريقة عادلة تعيد الحقوق العربية.
وفيما يلي أهم عناصر تأثير الوجود الاستعماري الإسرائيلي على السياسات الداخلية العربية:
تراجع فرص التنمية الحقيقية بسبب تذرع الأنظمة العربية بأهمية الإنفاق على الدفاع لمواجهة إسرائيل، مع أن هذه الأنظمة لم تبن تنمية مستدامة ولا دفاعا قويا.
استخدام الصراع العربي الإسرائيلي من قبل الأنظمة العربية لمنع قيام حكم رشيد ديمقراطي، بذريعة "أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وهو ما أدى إلى فشل ذريع في معركتي الحوكمة والصراع مع إسرائيل على حد سواء.
التذرع بالوجود الفلسطيني الممثل باللاجئين في بعض الدول العربية كمبرر لتأخير القيام بإصلاحات حقيقية، واللعب بالوضع الديمغرافي الحساس في بعض الدول من خلال هذا الوجود، وخصوصا في الأردن ولبنان.
استخدام الورقة الفلسطينية في الصراعات السياسية والأيديولوجية بين الأطراف السياسية المختلفة في بعض الدول العربية، كما حصل باتهام الدولة السورية للفلسطينيين بافتعال الأحداث في بداية الثورة، والاستخدام المخزي لبعض أطراف المعارضة المصرية للورقة الفلسطينية في محاولتها لإضعاف وتشويه الرئيس مرسي من خلال الربط بين أحداث أمنية مثل جريمة رفح وحركة حماس بسبب قربها الأيدويلوجي مع الرئيس المنتمي لجماعة الإخوان.
وأخيرا يتفق بعض الداعين لتهميش القضية الفلسطينية أو الصراع العربي الإسرائيلي على كثير من النقاط المطروحة سابقا، بل ويستخدمونها للتدليل على أن الاهتمام بالصراع العربي الإسرائيلي هو الذي سبب هذه السلبيات في الواقع العربي.
ولكن التحليل العميق لهذه العلاقة المتشابكة بين استقرار المنطقة وبين الصراع العربي الإسرائيلي يقود إلى نتيجة واحدة ووحيدة، وهي أن هذا الصراع هو الأكثر مركزية وجوهرية، وأن الطريق الوحيد لإنهاء التأثيرات السلبية له على الواقع والمستقبل العربي هو بالانغماس بشكل أكبر بالمعركة مع المشروع الإسرائيلي الاستعماري، والعمل عل حله بشكل يعيد كافة الحقوق الفلسطينية الوطنية، وإشراك الشعب الفلسطيني في صناعة المشروع النهضوي العربي بمواجهة مشروع الاستعمار الجديد، والعودة إلى أوليّات وجذور الصراع، بدلا من الدعوات الشوفينية، التي لن تأتي للدول العربية بأي خير.
فالصراع هو صراع عربي وليس فلسطينيا إسرائيليا، وعلى من ينكر ذلك أن يعود لقراءة التاريخ والجغرافيا والسياسة من جديد.
فراس أبو هلال
ثمة نقاش ليس جديدا يدور في أروقة الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي حول مركزية الصراع العربي الإسرائيلي أو ما يطلق عليه البعض "القضية الفلسطينية" ولكن الجديد في هذا النقاش هو ارتفاع صوته وحدته مع اشتعال الثورات الشعبية العربية منذ نهاية ديسمبر/كانون الأول من العام 2010، حيث أصبح الإنسان العربي أكثر انشغالا بقضية الحريات، وبمستقبل البلاد التي شهدت ولا تزال تشهد حراكا شعبيا ارتكز في مجمله على قضايا مطلبية "قُطرية" في هذا البلد أو ذاك.
فهل لا يزال الصراع العربي الإسرائيلي قضية مركزية للأمة العربية؟ وما الذي يمكن أن يدفع المواطن العربي المثقل بهمومه "الوطنية" للالتفات كثيرا لما يحصل في أرض الصراع- فلسطين؟
خلفيات الجدل
قبل البداية في نقاش التساؤلات المطروحة في الجدل حول مركزية الصراع العربي الإسرائيلي، لابد من تحديد منطلقات هذا الجدل، وخلفياته، والفئات التي تطرحه، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات تختلف في أيديولوجياتها ومنطلقاتها وزوايا نظرها للمسألة.
وأولى هذه الفئات هي تلك "النخب" التي كفرت منذ زمن ليس بالقصير بالقومية وانحازت ونظرت للقطرية، ودعت في أدبياتها إلى أهمية تفرغ كل شعب عربي للبحث عن حلول لمشكلاته الداخلية بدلا من التفكير في الصراع العربي الإسرائيلي.
وقد وجدت هذه الفئة ضالتها ببعض المظاهر التي رافقت الثورات الشعبية العربية، والتي قرأها البعض على أنها دليل على تمكن الهموم المحلية من الشعوب العربية، بدليل أن الشعارات التي طرحت في المظاهرات والاحتجاجات كانت في أغلبها مسكونة بالهم الداخلي، متناسية أن الجماهير في خضم صراعها مع أنظمتها الاستبدادية لم تنس فلسطين في بعض الفعاليات والشعارات، كشعار "الشعب يريد تحرير فلسطين " الذي تغنى به التونسيون في أول احتفالاتهم بسقوط بن علي، أو أحداث السفارة الإسرائيلية في القاهرة، أو المظاهرات التي خرجت في أكثر من بلد عربي عند بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
أما الفئة الثانية فهي أولئك الشباب أو النشطاء الذين سئموا من استخدام بعض الأنظمة العربية الشمولية لقضية فلسطين كمبرر لكل أنواع الفشل على الصعيد الداخلي، وخصوصا تلك الأنظمة الأكثر بؤسا وقمعية في سوريا وليبيا/القذافي.
وتبقى الفئة الثالثة وهي تشمل بعض الإسلاميين الذين يرفعون شعارات أممية، ويرون أن فلسطين -على أهميتها الدينية المتمثلة بالقدس والمسجد الأقصى- هي بلد مسلم مثل أي بلد، ولذلك فلا يجوز إعطاؤها أهمية أكبر من صراعات وهموم إسلامية أخرى مثل قضية الشعب السوري والنزاع الشيعي السني وقضية كشمير وأفغانستان وغيرها من الأمثلة التي يعاني فيها المسلمون من صراعات واضطهاد في مختلف أنحاء المعمورة.
وبغض النظر عن الخلفيات لطرح هذا الجدل، إلا أنه يبقى جدل مشروع لابد من نقاشه بشكل علمي، خصوصا ونحن نعيش في مرحلة صناعة "النظرية" أو الأسس الجديدة للبلاد العربية في عصر ما بعد الثورات، ولهذا فإن الشعارات القومية لم تعد كافية لشرح مركزية فلسطين، إذ أن هذه المركزية ترتكز أيضا على أسس عقلانية تتعلق بقيمة "إسرائيل" الإستراتيجية للمشروع الاستعماري الغربي في المنطقة، وبكون هذه الدولة منطلقا لكثير من الصراعات العربية العربية، وبتأثيرها في صنع بعض السياسات الداخلية في دول المنطقة.
رأس الحربة
منذ إنشائها، كانت "إسرائيل" رأس الحربة في المشروع الغربي الساعي إلى تفتيت وإضعاف المنطقة، ولذلك فقد حظيت الدولة الوليدة برعاية الإمبراطورية البريطانية الآخذة في الأفول في ذلك الوقت، كما حصلت على اعتراف سريع جدا من الدولتين العظميتين الصاعدتين آنذاك أميركا والاتحاد السوفياتي.
ومع نهاية العصر الإمبراطوري البريطاني وبروز الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، أخذت هذه الدولة أهمية جديدة بالنسبة للولايات المتحدة، التي تعاملت معها كحليف إستراتيجي وأداة استعمارية في المنطقة.
وعلى الرغم من الجدل الذي شهدته الساحة السياسية الأميركية حول أهمية "إسرائيل" الإستراتيجية لواشنطن في الأربعينيات والخمسينيات، إلا أن هذا الجدل حسم بشكل شبه تام بعد نكسة حرب حزيران، حيث استطاعت تل أبيب بعد هذه الحرب أن تقنع كافة دوائر صناعة القرار في واشنطن أنها حليف يمكن الاعتماد عليه، بعد أن هزمت بشكل مهين دولتين من أهم حلفاء موسكو في المنطقة العربية وهما مصر وسوريا.
ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، تشهد الولايات المتحدة حالة قد تصل إلى الإجماع حول كون إسرائيل دولة إستراتيجية هامة في السياسة الأميركية في المنطقة، وعلى الرغم من وجود بعض الأصوات الرافضة لهذا الإجماع، إلا أنها لا تزال تمثل صوتا خافتا بمقابل الطرف الآخر، الذي لا ينظر فقط إلى أهمية "إسرائيل" في المنطقة، بل يتجاوز ذلك بوصف تل أبيب كحليف واحد ووحيد لواشنطن في الشرق الأوسط.
لقد وقفت "إسرائيل" مع الولايات المتحدة في كل حروبها، وتعاونت معها استخباريا في مجالات متعددة، وقدمت وتقدم لها تعاونا عسكريا غير محدود، بل إن واشنطن تدير قواعد عسكرية أميركية بشكل مباشرة في "إسرائيل"، كما أن الأخيرة تشكل قاعدة لتصنيع بعض الأنواع الدفاعية من الأسلحة التي استفادت منها الولايات المتحدة بعد احتلالها لأفغانستان والعراق.
وفي حربي الولايات المتحدة على العراق عامي 1991 و2003 التزمت "إسرائيل" تماما بما طلبته أميركا بعدم التدخل بهدف الحفاظ على التحالف الأميركي مع الدول العربية ضد الرئيس الراحل صدام حسين، وفي عام 1981 قصفت "إسرائيل" المفاعل النووي العراقي، وهو ما اعتبر لاحقا كمقدمة سهلت من العملية العسكرية الأميركية عام 1992 كما يرى المنظرون لأهمية إسرائيل الإستراتيجية مثل ديك تشينينائب الرئيس السابق.
استطاعت "إسرائيل" أيضا تشكيل ردع طويل المدى للدول المثيرة لقلق الولايات المتحدة وعلى رأسها سوريا والعراق قبل الاحتلال، وتولت أيضا جهود التحجيم لقوى غير حكومية مناوئة للمشروع الأميركي في المنطقة مثل حزب الله وقوى المقاومة الفلسطينية، كما أبدت استعدادها لمساعدة حلفاء واشنطن عسكريا حينما دعت الحاجة كما حصل مع الأردن عندما تعرض لتهديد سوري عامي 1970 و1971.
إن الأمثلة السابقة، وإن كان بعضها محل نقاش بين داعمي إسرائيل وأعدائها في الولايات المتحدة، إلا أنها تظهر بشكل واضح أهمية هذه الدولة المزروعة بالمنطقة في تحقيق أهداف الولايات المتحدة الأميركية الاستعمارية، التي تهدف أساسا لإضعاف أي مشروع نهضوي عربي، ولاستمرار السيطرة على منابع الطاقة في المنطقة الأغنى بالبترول عالميا.
فتش عن إسرائيل!
منذ إنشاء دول الاستقلال العربية بعد تفكيك الاستعمار الأوروبي، شهدت هذه الدول صراعات متعددة فيما بينها، ولا تزال بعض هذه الصراعات مستمرة حتى الآن.
وعلى الرغم من تعدد أسباب هذه الصراعات، إلا أن "إسرائيل" كانت حاضرة في معظم الخلافات العربية العربية بشكل مباشر أو غير مباشر، دون أن يعني ذلك أنها كانت المسؤولة عن كل العلاقات السيئة بين الدول العربية، إذ أن اختلاف المصالح بين أنظمة هذه الدول كان سببا رئيسيا آخر في الصراعات فيما بينها.
لقد كان الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي مثلا هو أحد أهم الأسباب المؤججة للخلافات بين الدول العربية، وهو الذي أدى لظهور الصراع والتضاد بين ما كان يعرف بـ" الجمهوريات الثورية التقدمية" و "الملكيات الرجعية" وأعاق قيام علاقة صحية بين هذه الدول. كما أدى التنافس أحيانا بين الدول "الثورية" نفسها على قيادة الصراع مع "إسرائيل" إلى خلافات عميقة بين هذه الدول، كالخلافات بين عبد الكريم قاسم وجمال عبد الناصر.
ولا تزال تقسيمات المحاور في المنطقة العربية، قائمة أساسا على الموقف من الولايات المتحدة والصراع مع إسرائيل، وهو الموقف الذي أدى إلى ظهور الصراعات بين ما كان يعرف بمحور المقاومة والممانعة ومحور الاعتدال، وقاد إلى حدوث خلافات جذرية في المنطقة أعاقت الوصول إلى أي نوع من أنواع التوافق بين الدول العربية.
ومن المبررات التي تدعو للقول بمركزية الصراع العربي الإسرائيلي، هو أن هذا الصراع كان أداة في محاولة بعض الدول العربية الكبيرة لتحقيق نفوذ سياسي على حساب دول أخرى، كما حصل في محاولة استخدام بعض الدول لمنظمة التحرير لتحقيق نفوذ لها في الأردن قبل حرب أيلول الأسود، أو في الاستخدام السوري لوجود المقاومة الفلسطينية في لبنان للعب في سياسة هذا البلد والسيطرة عليه لعقود طويلة.
ويبقى القول إن الصراع العربي الإسرائيلي أدى إلى خسارة أهم دولة عربية هي مصر، التي خرجت من منظومة العمل العربي بعد توقيعها لاتفاقية كامب ديفيد، ودخلت في صراعات طويلة مع الدول العربية بسبب هذا الموقف، ولم تعد حتى الآن إلى دورها المنوط بها كأكبر دولة عربية محورية، وهو الدور الذي يطمح العرب بعودته بعد أن تستعيد مصر عافيتها بفعل ثورة يناير العظيمة.
إن الصراع العربي الإسرائيلي كما تظهر الأمثلة السابقة كان سببا أساسيا في الصراعات العربية العربية، وهو ما يؤكد مركزية هذا الصراع، وأهمية إنهائه، بدلا من الدعوات "القُطرية" التي تدعو لتراجع الاهتمام به، فهذا الصراع هو أس الصراعات الأخرى، على الرغم من كل مزاعم أصحاب النظريات الشوفينية.
أثر الوجود الإسرائيلي عربيا
إضافة إلى تأثير الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية على الصراعات بين دول هذه المنطقة، فقد لعب هذا الوجود دورا سلبيا في السياسة الداخلية للأنظمة العربية، مما يؤكد مركزية هذا الصراع، وضرورة تظافر الجهود العربية لحلها بطريقة عادلة تعيد الحقوق العربية.
وفيما يلي أهم عناصر تأثير الوجود الاستعماري الإسرائيلي على السياسات الداخلية العربية:
تراجع فرص التنمية الحقيقية بسبب تذرع الأنظمة العربية بأهمية الإنفاق على الدفاع لمواجهة إسرائيل، مع أن هذه الأنظمة لم تبن تنمية مستدامة ولا دفاعا قويا.
استخدام الصراع العربي الإسرائيلي من قبل الأنظمة العربية لمنع قيام حكم رشيد ديمقراطي، بذريعة "أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وهو ما أدى إلى فشل ذريع في معركتي الحوكمة والصراع مع إسرائيل على حد سواء.
التذرع بالوجود الفلسطيني الممثل باللاجئين في بعض الدول العربية كمبرر لتأخير القيام بإصلاحات حقيقية، واللعب بالوضع الديمغرافي الحساس في بعض الدول من خلال هذا الوجود، وخصوصا في الأردن ولبنان.
استخدام الورقة الفلسطينية في الصراعات السياسية والأيديولوجية بين الأطراف السياسية المختلفة في بعض الدول العربية، كما حصل باتهام الدولة السورية للفلسطينيين بافتعال الأحداث في بداية الثورة، والاستخدام المخزي لبعض أطراف المعارضة المصرية للورقة الفلسطينية في محاولتها لإضعاف وتشويه الرئيس مرسي من خلال الربط بين أحداث أمنية مثل جريمة رفح وحركة حماس بسبب قربها الأيدويلوجي مع الرئيس المنتمي لجماعة الإخوان.
وأخيرا يتفق بعض الداعين لتهميش القضية الفلسطينية أو الصراع العربي الإسرائيلي على كثير من النقاط المطروحة سابقا، بل ويستخدمونها للتدليل على أن الاهتمام بالصراع العربي الإسرائيلي هو الذي سبب هذه السلبيات في الواقع العربي.
ولكن التحليل العميق لهذه العلاقة المتشابكة بين استقرار المنطقة وبين الصراع العربي الإسرائيلي يقود إلى نتيجة واحدة ووحيدة، وهي أن هذا الصراع هو الأكثر مركزية وجوهرية، وأن الطريق الوحيد لإنهاء التأثيرات السلبية له على الواقع والمستقبل العربي هو بالانغماس بشكل أكبر بالمعركة مع المشروع الإسرائيلي الاستعماري، والعمل عل حله بشكل يعيد كافة الحقوق الفلسطينية الوطنية، وإشراك الشعب الفلسطيني في صناعة المشروع النهضوي العربي بمواجهة مشروع الاستعمار الجديد، والعودة إلى أوليّات وجذور الصراع، بدلا من الدعوات الشوفينية، التي لن تأتي للدول العربية بأي خير.
فالصراع هو صراع عربي وليس فلسطينيا إسرائيليا، وعلى من ينكر ذلك أن يعود لقراءة التاريخ والجغرافيا والسياسة من جديد.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية