مشاهد من دير ياسين
صلاح حميدة
يحتار الانسان فيما وعن ماذا يكتب بخصوص قرية دير ياسين ومجزرتها الرهيبة، فالجرح في القلب، والدم لا زال ينزف، والألم لا تستطيع كل المسكنات تخديره، فنحن نعيش جرح دير ياسين كل يوم، وهي معاناة لا يفهمها إلا مَن طُرِدَ من بيته وبلده وعاش غريباً طريداً متنقلاً، فلا نفسك تهدأ، ولا معاناتك تنتهي، ولا رغبتك بالعودة تفتر.
فما هي صورة الأيام الأخيرة في دير ياسين، وما هي صور ما قبل وخلال وما بعد المجزرة؟ صور الاطفال والنّساء والشباب والشيوخ والمرضى.
قبل أيام من المجزرة تذهب إحدى النّساء إلى بئر الماء خاصّتهم لتقطف بعض أوراق البصل التي زرعتها قرب البئر، فتجد عشَّاً لطير الشُّنَّار فيه عدد من البيضات، فتأخذها وتقليها لأطفالها قبل ذهاب بعضهم إلى مدرسة القرية، ولا يزال بعض الأحياء من أطفالها يذكرون تلك البيضات التي سبقت تهجيرهم حفاة من منزلهم.
أحد المقاتلين من شباب دير ياسين تحدَّث عن قتاله - وبعض شباب القرية- ضد العصابات الصهيونية في القسطل مع القائد عبد القادر الحسيني، و ذكر كم من التضحيات كلف تحرير تلك القرية، وكيف تركتها الحامية التي تركوها فيها، وعادت العصابات الصهيونية واحتلتها بلا قتال. وذكر أنّه شارك عدد من المقاتلين من دير ياسين في جنازة عبد القادر الحسيني، بينما فضل بعضهم البقاء في البلدة لأنّ الوضع كان متوتراً.
بعض الشبان كانوا من هواة لعب كرة القدم ويضرون لمباريات في اجواء ربيعية جميلة، و الأطفال يتحضَّرون للذهاب للمدرسة في اليوم التالي للدراسة على يد مربيتهم الشهيدة حياة البلبيبي، بينما معلمتهم منهمكة في التحضير لتعليم تلاميذها في اليوم التالي.
المزارعون يفلحون أرضهم بكل جدٍ واهتمام، فهذه فترة الزراعة والعناية بالاشجار والخضار، فدير ياسين كانت مشهورة بتينها ولوزياتها وخضارها، وتزرع الزيتون وفاكهة الصبر وانواع أخرى من الخضار والفواكه، وكان المزارعون يُسوِّقون إنتاجهم في القدس القريبة من القرية، وكانوا يتفاخرون فيما بينهم بأفضل الانتاج من الخضار والفواكه.
أبناء دير ياسين أصحاب حِرفة ( حَجَّارة) أصحاب محاجر وعمّال وحِرَفِيِّين، وكانوا يصدرون إنتاجهم للكثير من المناطق، وكانوا يمتلكون معدّات ووسائل نقل في محاجرهم، وكان الكثير منهم يعملون في ( التقشيب) و ( الدّقاقة) وكان يقال عن فلان قَشِّيب أو دَقِّيق، وكانت تجارتهم رائجة، وأحوالهم المادية جيّدة، وهذا يلحظه من يذهب للقرية ويشاهد معمارها الجميل المُتقن.
طقس دير ياسين جميل ولطيف، وهواؤها نقي، تقع على يسار المسافر من القدس إلى يافا، تربض على مجموعة من التلال والجبال المُشَجَّرَة الجميلة، بعض أهلها امتهنوا مهنة الطب العربي. وكان أهالي دير ياسين يتميّزون بما يعرف بال ( جيزة الياسينيّة) وبمقتضاها يتم تحديد مهر العروس لتيسير الزواج على الشباب، ويذكر كبار القرية انّ هذا القانون كان يسري على الجميع، وفي هذا قصص جميلة يقُصُّونها، وكان عدد الشباب أكثر من عدد الفتيات في القرية، ولذلك لجأوا كثيراً للزواج من خارج القرية.
أمّا الدبكة الشعبية والأوف والميجنا، فقد شهدت القرية حفلات ودبكات واشعارا ومواويل رائعة ميّزت دير ياسين وأهلها، بالاضافة إلى الثوب المطرَّز، واللهجة المميزة، والطعام اللذيذ، والذي تميزت به قرى القدس بشكل عام، كالمنسف وغيره.
هذا المشهد الجميل من القرية كان يحوم حوله خفافيش الموت والإجرام، وكان هؤلاء يحضِّرون لدير ياسين مشهداً ومصيراً آخر، فقتلوا الأطفال وأحلامهم، والتلاميذ ومُدَرِّسَتَهم، وطردوا الجميع من بيوتهم.
اقتحموا القرية وقتلوا من استطاعوا قتله، ذبحوا من وجدوهم في طريقهم بالحراب والسكاكين والطلقات النارية والمتفجرات والقذائف والحرق، وأجهزوا - مقاتلين ومقاتلات- على كل الجرحى والكثير من الاسرى، و جمعوا الجثث في ساحة القرية وأحرقوها وألقوها في بئر وسط القرية، بينما لا يعلم مصير من قتلوا في محاجر القرية.
سرقوا حِلِيّ النساء، وثيابهن المطرزة، وأموال الأهالي، وجالوا بأسراهم من النساء والأطفال شوارع المستوطنات في احتفالية الغدر والدم والقتل والسطو المسلح، وتسابقوا لسرقة الدواجن والحيوانات الأخرى وأثاث المنازل والغلال و (المونة) وعادوا إلى جفعات شاؤول وحضَّروا وليمةً كبيرةً من المسروقات التي سرقوها، واحتفلوا مع قادتهم وتناولوا وليمة الدم والموت والعار الذي سيبقى يلاحقهم إلى الأبد.
أمّا شركة ( سوليه بنيان) التي تفخر بأنّها من كبار شركات المقاولات والبناء الاحتلالية، فمارست دورها في السرقة والنهب، وسلبت كل المعدات والآليات وكل ما استطاعوا نهبه من محاجر القرية وكساراتها،
تشرد أهالي القرية في البلاد، ولا زالت نساؤهم تُرضع أبناءها حُبَّ دير ياسين، وتحكي لهم قصصها وتفاصيلها الدقيقة، وتعلمهم ما الذي حل بقريتهم الوادعة وأهلها الطيبين، وتؤكّد لهم أنّ القتلة سينالون جزاءهم، وأنّ هذه الجريمة كللت مُقترفيها بالعار، إكليل صُنع من جثث الأطفال والأموال والبيوت المنهوبة ودماء وآلام الضحايا ومعاناتهم التي يعانونها كل لحظة، ويبقى الإيمان الراسخ بأنّ هذه أرضٌ لن تكون إلا لأهلها، وستعود لهم في مشهد حتمي وسيرحل الغزاة إلى غير رجعة.
صلاح حميدة
يحتار الانسان فيما وعن ماذا يكتب بخصوص قرية دير ياسين ومجزرتها الرهيبة، فالجرح في القلب، والدم لا زال ينزف، والألم لا تستطيع كل المسكنات تخديره، فنحن نعيش جرح دير ياسين كل يوم، وهي معاناة لا يفهمها إلا مَن طُرِدَ من بيته وبلده وعاش غريباً طريداً متنقلاً، فلا نفسك تهدأ، ولا معاناتك تنتهي، ولا رغبتك بالعودة تفتر.
فما هي صورة الأيام الأخيرة في دير ياسين، وما هي صور ما قبل وخلال وما بعد المجزرة؟ صور الاطفال والنّساء والشباب والشيوخ والمرضى.
قبل أيام من المجزرة تذهب إحدى النّساء إلى بئر الماء خاصّتهم لتقطف بعض أوراق البصل التي زرعتها قرب البئر، فتجد عشَّاً لطير الشُّنَّار فيه عدد من البيضات، فتأخذها وتقليها لأطفالها قبل ذهاب بعضهم إلى مدرسة القرية، ولا يزال بعض الأحياء من أطفالها يذكرون تلك البيضات التي سبقت تهجيرهم حفاة من منزلهم.
أحد المقاتلين من شباب دير ياسين تحدَّث عن قتاله - وبعض شباب القرية- ضد العصابات الصهيونية في القسطل مع القائد عبد القادر الحسيني، و ذكر كم من التضحيات كلف تحرير تلك القرية، وكيف تركتها الحامية التي تركوها فيها، وعادت العصابات الصهيونية واحتلتها بلا قتال. وذكر أنّه شارك عدد من المقاتلين من دير ياسين في جنازة عبد القادر الحسيني، بينما فضل بعضهم البقاء في البلدة لأنّ الوضع كان متوتراً.
بعض الشبان كانوا من هواة لعب كرة القدم ويضرون لمباريات في اجواء ربيعية جميلة، و الأطفال يتحضَّرون للذهاب للمدرسة في اليوم التالي للدراسة على يد مربيتهم الشهيدة حياة البلبيبي، بينما معلمتهم منهمكة في التحضير لتعليم تلاميذها في اليوم التالي.
المزارعون يفلحون أرضهم بكل جدٍ واهتمام، فهذه فترة الزراعة والعناية بالاشجار والخضار، فدير ياسين كانت مشهورة بتينها ولوزياتها وخضارها، وتزرع الزيتون وفاكهة الصبر وانواع أخرى من الخضار والفواكه، وكان المزارعون يُسوِّقون إنتاجهم في القدس القريبة من القرية، وكانوا يتفاخرون فيما بينهم بأفضل الانتاج من الخضار والفواكه.
أبناء دير ياسين أصحاب حِرفة ( حَجَّارة) أصحاب محاجر وعمّال وحِرَفِيِّين، وكانوا يصدرون إنتاجهم للكثير من المناطق، وكانوا يمتلكون معدّات ووسائل نقل في محاجرهم، وكان الكثير منهم يعملون في ( التقشيب) و ( الدّقاقة) وكان يقال عن فلان قَشِّيب أو دَقِّيق، وكانت تجارتهم رائجة، وأحوالهم المادية جيّدة، وهذا يلحظه من يذهب للقرية ويشاهد معمارها الجميل المُتقن.
طقس دير ياسين جميل ولطيف، وهواؤها نقي، تقع على يسار المسافر من القدس إلى يافا، تربض على مجموعة من التلال والجبال المُشَجَّرَة الجميلة، بعض أهلها امتهنوا مهنة الطب العربي. وكان أهالي دير ياسين يتميّزون بما يعرف بال ( جيزة الياسينيّة) وبمقتضاها يتم تحديد مهر العروس لتيسير الزواج على الشباب، ويذكر كبار القرية انّ هذا القانون كان يسري على الجميع، وفي هذا قصص جميلة يقُصُّونها، وكان عدد الشباب أكثر من عدد الفتيات في القرية، ولذلك لجأوا كثيراً للزواج من خارج القرية.
أمّا الدبكة الشعبية والأوف والميجنا، فقد شهدت القرية حفلات ودبكات واشعارا ومواويل رائعة ميّزت دير ياسين وأهلها، بالاضافة إلى الثوب المطرَّز، واللهجة المميزة، والطعام اللذيذ، والذي تميزت به قرى القدس بشكل عام، كالمنسف وغيره.
هذا المشهد الجميل من القرية كان يحوم حوله خفافيش الموت والإجرام، وكان هؤلاء يحضِّرون لدير ياسين مشهداً ومصيراً آخر، فقتلوا الأطفال وأحلامهم، والتلاميذ ومُدَرِّسَتَهم، وطردوا الجميع من بيوتهم.
اقتحموا القرية وقتلوا من استطاعوا قتله، ذبحوا من وجدوهم في طريقهم بالحراب والسكاكين والطلقات النارية والمتفجرات والقذائف والحرق، وأجهزوا - مقاتلين ومقاتلات- على كل الجرحى والكثير من الاسرى، و جمعوا الجثث في ساحة القرية وأحرقوها وألقوها في بئر وسط القرية، بينما لا يعلم مصير من قتلوا في محاجر القرية.
سرقوا حِلِيّ النساء، وثيابهن المطرزة، وأموال الأهالي، وجالوا بأسراهم من النساء والأطفال شوارع المستوطنات في احتفالية الغدر والدم والقتل والسطو المسلح، وتسابقوا لسرقة الدواجن والحيوانات الأخرى وأثاث المنازل والغلال و (المونة) وعادوا إلى جفعات شاؤول وحضَّروا وليمةً كبيرةً من المسروقات التي سرقوها، واحتفلوا مع قادتهم وتناولوا وليمة الدم والموت والعار الذي سيبقى يلاحقهم إلى الأبد.
أمّا شركة ( سوليه بنيان) التي تفخر بأنّها من كبار شركات المقاولات والبناء الاحتلالية، فمارست دورها في السرقة والنهب، وسلبت كل المعدات والآليات وكل ما استطاعوا نهبه من محاجر القرية وكساراتها،
تشرد أهالي القرية في البلاد، ولا زالت نساؤهم تُرضع أبناءها حُبَّ دير ياسين، وتحكي لهم قصصها وتفاصيلها الدقيقة، وتعلمهم ما الذي حل بقريتهم الوادعة وأهلها الطيبين، وتؤكّد لهم أنّ القتلة سينالون جزاءهم، وأنّ هذه الجريمة كللت مُقترفيها بالعار، إكليل صُنع من جثث الأطفال والأموال والبيوت المنهوبة ودماء وآلام الضحايا ومعاناتهم التي يعانونها كل لحظة، ويبقى الإيمان الراسخ بأنّ هذه أرضٌ لن تكون إلا لأهلها، وستعود لهم في مشهد حتمي وسيرحل الغزاة إلى غير رجعة.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية