تعقيبا على المشهد المصري:
هزيمة "المثقف المتفوق" في قضية الإخوان العادلة
ساري عرابي
كنتُ أحرص منذ خروجي من السجن، حيث حصلت الثورة المصرية أثناء اعتقالي، أن أتابع أكثر المصادر المتاحة التي تعقب على الشأن المصري، سواء من المصريين أنفسهم، أو من العرب، وقد تنوعت هذه المتابعة ما بين القنوات الفضائية، والصحف، ومواقع الإنترنت، وصفحات الفيسبوك، وتويتر.
وحرصتُ على متابعة كل فرقاء الساحة المصرية، من إخوان، وفصائل إسلامية أخرى، وبقية فصائل وقوى وشخصيات المشهد السياسي المصري، بما في ذلك خصوم الإسلاميين، وأولئك الذين يسمون أنفسهم "شباب الثورة"، ويتصرفون على أساس امتلاكهم للثورة، والاعتقاد أن التاريخ بدأ من عندهم فقط!
وكثيرًا ما كانت تتباين تعقيباتي ما بين نقد شديد للإخوان، ونصرة قوية لهم، بحسب الموقف، ولم أكن أعتقد للحظة؛ أن خلفيتي الإسلامية توجب علي تأييدهم المستمر، ولا نزعتي النقدية توجب علي أن أجعل نقد الإخوان حالة أبدية حتى لو كانت مظلوميتهم بينة لا تحتاج جهدًا في البحث عن دليل عليها، مهما كان حشد الإعلام قد فجر في تشويه الحقيقة.
في الأحداث الأخيرة، بعد الإعلان الدستوري؛ حينما حشدت الأحزابُ كل جمعها، وأخرج خصوم الإسلاميين ما في صدورهم صراحة، وكانت صور الحدث الواقعية إلى حد يجعل من مناقشتها أمرًا مهينًا للعقل والضمير، لم أجد بدًا من الانحياز لمظلومية المظلوم، ومتابعة الأحداث عن كثب شديد، خاصة وأنا فلسطيني؛ أسمع ذلك التحريض علينا كفلسطينيين من التشكيل العجيب لقوى المعارضة المصرية، وهو نفس التحريض الذي كان يطلقه النظام المصري أثناء ثورة 25يناير المجيدة!
وأثناء هذه المتابعة، لم تذهلني تلك المواقف التي يطلقها بعض الكتاب والمعلقين، ممن تجمدوا في قوالب التنظير، وتعلبوا في تصور واحد للنقد، وسقطوا في كمين التعالي الثقافي، الذي يفضي إلى سطحية مثيرة للغثيان، لا تكشف عن نتائج بائسة ليست ذات صلة صادقة بحقيقة الأحداث وحسب، وإنما تكشف أيضًا عن قصور في المتابعة، واختزال في المصادر، حيث أن هذا المعقب المثقف، يعتمد في متابعته ما يخدم فقط تصوراته المسبقة، أو إشكالاته الذاتية، أو نزعاته الشخصية، أو بطولاته الموهومة، أو ذاته المتضخمة!
البعض من الشباب الإسلامي، اتخذ من الادعاء الثقافي صنعة له، فتصور أن موقع المثقف النقدي لا يبنى إلا على أنقاض الحركة الإسلامية، فيأخذ مسافة من الإسلاميين، متصورًا أن الاندماج في المجال الثقافي لا يتأتى إلا بتكلف نقد ومعارضة الإسلاميين في كل أحوالهم، حتى يكون مقبولًا بين "المثقفين"، وحتى يشعر ببعض الاتساق مع الذات المتضخمة بوهم الامتلاء الثقافي مقابل "المعرفة الإسلامية التقليدية المحنطة"!
هذه الظاهرة تستحق وقفات، وإن لم تكن تدعو للدهشة، لأنها صارت معتادة، وجزءًا من حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية، حيث لا يُفهم أبدًا أن تختلط الأولويات على مثقف مهمته الأساسية البحث الجاد عن الحق، ومن ثم الدفاع المستميت عنه، ولكنه بدلًا من ذلك ينشغل بالتنظير البارد، أو التحليل المنبت في مقدماته ونتائجه وأدواته ولغته عن اشتعال الأحداث وخطورة دلالاتها ومآلاتها، أو "يتسلى" بالبحث عن أخطاء لكلا الطرفين، في اسوأ سلوك يقترفه أدعياء الثقافة عادة، حينما يستحيل تعاليهم على الفرقاء إلى انحراف عن القدرة الجريئة على تحديد موقف مما يجري، أو يجدها فرصة لإثبات الجدارة والتفوق الثقافي والمعرفي على هؤلاء "الإسلاميين المحنطين"، أو فرصة لتصفية حسابات شخصية، أو للتأكيد على صحة آراء سابقة!
ما أفهمه؛ أن الكلمة هي جوهر المحتوى الثقافي، فأفضل المثقفين؛ ذلك الذي يقول كلمة حق، عند سلطان جائر، أو معارضة جائرة، أو هوى نفس جائر، أو وسط (ما) جائر، فإن قُتل في سبيل كلمته، فهو أعظم الشهداء، حتى من شهيد السيف، لأنه كان شاهدًا للحق، شاهدًا على الباطل، رغم قلة حيلته المادية، وإن لم يستطع قولها، فسكت، فذلك أضعف إيمانه، وقدره الذي لا يجدر به تجاوزه، فإن نطق، فتفذلك في مساواة المعتدي بالمعتدى عليه، أو البحث عن أخطاء للمعتدى عليه في وقت نصرته وإنصافه، فإنما هو إضافة خطيرة لصف الباطل!
بعض هؤلاء يتصرف، وكأنه الرسول الإلهي لقضية العدالة، فيكتب في الحريات، والديمقراطية، وتحكيم الإرادة الشعبية، لكنه مثل (فوكوياما) يعتقد أنه الإنسان الأخير، والمتفوق المطلق، وأن هؤلاء الإسلاميين الحركيين (والذين كان منهم يومًا أو يحسب عليهم بشكل ما) جماعات ما قبل التاريخ، فيتخذ منهم موقفًا مزدريًا متعاليًا ناقدًا على طول خطه الزمني، أصابوا أو اخطؤوا، ظَلَموا أو ظُلِموا! فيكون بوجه ما مثل (صامويل هنتنجتون) معتقدًا ضرورة وجد طرف يخاصمه، فلما كان مبارك في الحكم من بعد ثلاثين عامًا مغتصبًا الإرادة الشعبية، وملحقًا بلده بذيل الأمم، كان هذا المثقف نصيرًا للثورة على مبارك!
فلما صار مرسي في الحكم من بعد بضعة شهور وبانتخابات شعبية وفي ظل ركام هائل من الفساد والخراب الذي تركه مبارك ومع دولة عميقة تتحكم في كل مفاصل الدولة ومعارضة مهووسة ببغض الإسلاميين ويفتك بها الحسد السياسي، يناصر هذا المثقف هذه المعارضة التي تشكلت في ثورة مضادة، أو يتخذ موقفًا مائعًا تعجز عن إدراك معنى له! ليسقط "المبعوث الإلهي" في اختبار العدالة الواضح!
دعونا نرى من المحنط، تلك الجماعة "الرثة البالية"، أو هذا المثقف "المتفوق"، مع ملاحظة، أن هذه الملاحظات لا تقصد أبدًا خصوم الإسلاميين الدائمين، أو أنصارهم الدائمين!
أحدهم؛ لا قضية له إلا اتهام الإسلاميين بالاستفراد، ورفض التوافق، والعجز عن استيعاب الآخرين، وإذا كان له أن يتنبى هذا الرأي، وليس لأحد إلزامه بغيره، فإنه يجب على صديقنا "المثقف المتفوق" أن يحترم الناس، وأن يثق أنه ليس لأحد أن يسلم له برأيه، إلا إذا دلل عليه، ثم ليس لأحد أن يحترم رأيه، إلا إذا ناقش حجج الإسلاميين الذين عرضوا مسيرة طويلة من محاولات التوافق من طرفهم، لكن؛ بكل تأكيد لا يمكن احترام هذا المنطق البارد أثناء إحراق مقرات الإخوان التي زادت على الثلاثين حتى الآن، وقتل العديد من شبابهم، والدعوة لإسقاط رئيس منتخب بعد بضعة شهور فقط! لأن صراخ الكراهية، وعنف البغضاء، واشتعال المقرات، وسيلان الدم، لا يصم ويعمى عنه إلا من كان قد استودع من عقله أو ضميره!
لكن لا عجب؛ فالبعض، حتى من الإسلاميين أنفسهم يعتقد، أن واجب الإسلاميين الخالد، أن يكونوا مطايا لغيرهم، حشدًا في معركة جماعية عادلة، ثم يصعد الآخرون على جماجمهم إلى الحكم، فلا يحق للإسلامي أن يترشح للبرلمان، وإن ترشح فلا يفوز بأغلبية، وإن فاز فلا تنعكس أغلبيته في لجان البرلمان، وإلا فهو مستفرد مستبد سارق للثورة!
وإنما الإخوان مطية للآخرين، ينزلون عند أهوائهم وحسب، وهذه وظيفتهم التاريخية! فإن شكلوا تحالفًا فإنما كي يرفعوا الآخرين بأصواتهم وشبابهم وقدرتهم على الحشد والتنظيم! وإلا فهم انتهازيون! ألا نذكر التحالف الديمقراطي الذي شكلوه لتدخل كل الفصائل البرلمان في تحالف واحد بلا خلاف أو استقطاب، وجمع أكثر من أربعين حزبًا، ثم انسحبت أكثر تلك الأحزاب لأنها تريد حصة أكبر! فلما خاضت منفردة كانت حصتها أقل! ولن تعجب إذا وجدت إسلاميًا بارد الوجدان يقول لك: اخطأ الإخوان، فليكونوا مجرد وقود للآخرين!
ويا للطرافة! حينما فاز على قوائم الإخوان حزب الناصري حمدين صباحي! أرأيتم التعالي على الجراح؟ ورفع حزب القتلة والجلادين إلى البرلمان على قوائم ضحاياهم التاريخيين! وكم بقي صباحي وفيًا، ينفي عن الإخوان تهمة الاستفراد، حتى اقترفوا جريمتهم التاريخية ورشحوا رئيسًا، انتقل إلى مربع التخريب والإفساد، متحالفًا مع الليبرالية الأمريكية وهو القومي الناصري، ومستعينًا بالمال الإيراني، وحاضنًا لفلول مبارك، ومستعينًا بغرفة عملياتهم في قلب أبو ظبي!
ولماذا يرشح الإخوان رئيسًا؟! يا سلام! هذا حق حصري لحمدين صباحي! لا تعجب هذا منطق بعضهم! مع أن الإخوان ما رشحوا رئيسهم، إلا بعد أن تيقنوا أنه يراد حل البرلمان، وحل التأسيسية، وإقصاؤهم عن المشهد تمامًا، فما كان لهم لحماية حقهم، إلا أن يرشحوا رئيسًا منهم، يحول دون هذه المؤامرة الإقصائية القذرة! وقد أثبتت الأحداث صحة هذا السيناريو!
وسوف تجد إسلاميًا مهزوز العقل والضمير، يقول لك، كان عليه أن يترك حزبه، ويتبرأ من جماعته، كي يكون رئيس كل المصريين، في منطق ديمرقراطي عجيب، والأعجب أن صاحبه "مثقف متفوق" اطلع على ثقافات وتجارب الأمم الأخرى، على نحو لا يدركه هؤلاء "الإسلاميون المحنطون"! حتى صدقنا أن أوباما ترك الحزب الديمقراطي، وهولاند تبرأ من الاشتراكيين!
ولا نعلم، كيف كان يمكن لهذا الرئيس، أن يواجه العسكر، والدولة العميقة، وفلول مبارك، والحاقدين الأيديولوجيين، والحاسدين السياسيين، وذلك "الشباب الثوري" المهووس بامتلاك الثورة وادعاء إشعالها، مع إعلام مبارك، وإعلام الخليج، ونفطه، وفوق ذلك المال والإعلام الإيراني والسوري، بلا جماعة تحشد له وتحميه، وتحالف مع إسلاميين آخرين، اختلفوا معهم، لكن في ساعة الحقيقة أدركوا جوهر الصراع في مصر!
ما هي المفردات التي يمكنها وصف منطق هذا "المثقف المتفوق" الذي يعمى عن رؤية إحراق مقرات الإخوان، وقتل شبابهم، وخلق فتنة كبرى حينما وقف ثلاثي الشر: (البرادعي، عمرو موسى، صباحي) دقيقة حداد في مؤتمر صحفي يشاهده الملايين، على روح فتاة، زعموا أن الإخوان قتلوها، ثم ثبت أنها حية، ولم تشارك في أحداث ذلك اليوم؟! وكيف يمكن أن ألا يرى حجم البلطجة، ونوع مفردات المعارضة السياسية: (سب الدين، وشتم الأم)، وأدوات المعارضة السياسية في خيام المعتصمين: (خمور، وحشيش، وواقيات ذكرية!).
وهلا دل هذا "المثقف الإسلامي المتفوق" تلك "الجماعة المحنطة"، على طريق للتوافق مع من يريد اجتثاثهم؟ ويقول ذلك صراحة؟ بل ويقدم خطابًا لا يمكن أبدًا التفاهم معه! إذ كيف يمكن للإخوان أن يتوافقوا مع مطالب البرادعي بإقرار الهولكوست، وأن ينزلوا له عن أذواقهم وأمزجتهم الشخصية فيسمعوا الموسيقى التي يحب، ويستوردوا صينيين وهنودًا كي يكون ثمة معنى لإقامة معابد للبوذيين في مصر؟!
وكيف يمكن التوافق مع شخص شرطه الوحيد للتوافق، أن ينص الدستور على خلو منصب الرئيس حين إقراره! كي يتاح لصباحي الترشح السريع للرئاسة من جديد! ألا يذكر هذا الإسلامي "المتفوق بمعرفته التي يجهلها هؤلاء المعاقون معرفيًا من إخوانه الإسلاميين"، حينما استقر التنافس بين مرسي وشفيق وطالب بعض هؤلاء الفجرة من خصوم الإخوان اليوم، مرسي بالتنازل لصالح صباحي! ألا يلاحظ هذا "المثقف المتفوق" كيف أنه في كل أزمة يراد القفز على الإرادة الشعبية باختراع مجلس رئاسي مدني، يضم ساسة الشر ومن اختار لنفسه أن يكون في صفهم: (البرادعي، وحمدين)، وأحيانًا تضم لهم كسور عشرية مثل (خالد علي)، أو يزداد تلوثًا بهم (عبد المنعم أبو الفتوح)، وهكذا! بالفرض، بلا انتخاب، ولا إرادة شعبية! (مجلس مدني غير منتخب يجمع الخاسرين في الانتخابات!)، المهم أن يصيروا رؤساء ويقطعوا الطريق على الإسلاميين! ثم يزعم هذا "المثقف المتفوق" أنه نصير الإرادة الشعبية الأبدية! ويؤلف كتبًا، ويكتب مقالات في تقديم إرادة الأمة على تحكيم الشريعة! وإذا به فجأة ينحاز للتسلط والوصاية والتغلب على الإرادة الشعبية!
وكيف يمكن التوافق، والاطمئنان إلى هذا التجمع القطيعي الموتور والمهووس، وهو يجمع فلول مبارك صراحة، في ميدان التحرير، والملياردير القبطي العنصري ساويرس يستدعي الأجنبي، ويحرض على أبناء وطنه في إعلام الغرب، وشفيق يلقي الخطابات المسجلة من قلب العاصمة الإماراتية المحافظة، وقائد شرطة دبي ينشر صراحة سيناريو سقوط الإخوان، وممدوح حمزة يكشف بكل وضوح، أنهم يريدون اقتحام قصر الاتحادية واعتقال مرسي، وتنصيب كلمة السر السحرية: (مجلس رئاسي مدني غير منتخب)!
ومحمد أبو حامد يحرض الأقباط من الكنائس على الإسلاميين، ويطير إلى لبنان حيث سمير جعجع بطل مجزرة صبرا وشاتيلا، وعماد جاد المسيحي العنصري يتحدث بكل جرأة أن جبهة المعارضة اجتمعت بالسفيرة الأمريكية ووعدتها أن تثبت لها قدرتها على الحشد كي تستحق دعمها، والبرادعي صراحة يهدد بالعنف، والحرب الأهلية، ويخشى على بلده من الغرق في "ظلام الإسلاميين المتطرفين"، وقناة "العربية" السعودية، وسكاي الظبيانية، ترعيان على مدار 24 ساعة هذا التجمع القطيعي، ويا للعجب! يلتقي معهم إيضًا إعلام نظام بشار، وإيران، وحزب الله، وسعد الحريري، وبقايا أنطوان لحد في لبنان، وإعلام الفلول وقنوات أثرياء حزب مبارك، التي صارت فجأة حضنًا دافئًا لـ "شباب الثورة" الذين ويا للعجب! انقلبوا على أنفسهم، وما عادوا يطالبون بتطهير الإعلام، وإنما يسجدون في محاريب (لميس، وعمرو أديب، وتامر أمين، وخيري رمضان، وجابر القرموطي... الخ).
فانظروا إلى أعصاب "المثقف المتفوق" وهو لا يرى من كل هذا المشهد، ومن إحراق مقرات الإخوان، وقتل أبنائهم، واستهداف قياداتهم، والكذب الصارخ لدى خصومهم، إلا أن هذه المواجهة ليست بين إسلاميين وعلمانيين! مستدلًا بوجود إسلاميين أيضًا يعارضون مرسي!
ياه! كل ذلك المشهد الكبير من المؤامرة والاستهداف والإقصاء والحرق والقتل والتخريب والكذب والتزوير، لا يهم، وكل تلك الكتلة الكبيرة المتحالفة على نحو مشبوه ومريب وغير متصور، لا تهم، المهم أن المعارضة أيضًا فيها إسلاميون! هم على هامش المشهد! قلة في المشهد! لا يهم!! فماذا يريد أن يقول هذا الراقص في تويتر على جراح المظلومين؟! لا بد وأن يجد نفسه منجذبة إلى هؤلاء الخارجين من الإخوان أو المخالفين لهم، فالطيور على أشكالها تقع!
أو لننظر إلى ذلك الذي لا يرى في المشهد، إلا ضياع "أحلام الشباب الثوري" بين صراع القادمين من عصر مبارك، أي الإخوان، والمعارضة السياسية لهم، مساويًا بين الإخوان ومعارضيهم، معبرًا عن المشهد بهذه الرومانسية التافهة، وكأن الشباب الثوري هم فقط هؤلاء الذين يعارضون الإخوان، وكأن هذا المثقف قد صدق تصوره الهاذي بأن الإسلاميين من زمن آدم، وصفوفهم بلا شباب، وهو لهذا بكل تأكيد لا يرى قتلى الإخوان من الشباب!
ولا أدري ما قصة "الشباب الثوري" وأحلامه هذه! حتى بات المرء يعجز عن تعريف شريحة الشباب، حينما يجد أن الشباب حصرًا شريحة عمرية لا تتوفر إلا في غير الإسلاميين، أما الإسلاميون إذا صار الصغير فيهم ابن ست عشرة سنة استحال فجأة عجوزًا في الستين، بقدرة أسطورية معجزة لا يصدقها إلا عقل "المثقف المتفوق"!
وما هو هذا الشباب، الذي يعتبر معيارًا ثابتًا للحكم على الأحداث والأشياء؟ وأداة للتحليل والتفسير؟! وكأننا أمما حالة تأليه جديدة، فالشباب هنا لا يتغير ولا يتبدل، ولا يخطئ ولا يظلم، وحيثما نجده، فلنلحق به، وندافع عن قضيته، ونتبنى شعاراته، ونسب معه الدين، ونشتم الأم، ونحرق المقرات، ونقتل شباب الإخوان، ونضع أيدينا بأيدي الفلول، ونتمول من الإمارات، ونفبرك الصور، وننسب القتلى إلى غير الجهات التي ينتمون لها، ونوزع دستورًا مزورًا كي نقنع الناس برفضه... الخ...
ولا ينتبه هذا "المثقف المتفوق" وهو يذم الأحزاب والجماعات، خاشعًا في معبد أحلام الشباب، إلى أن هؤلاء الشباب منظمون أيضًا، في حركات، بعضها متطرف يجاهر صراحة بكراهية الإسلاميين، والدعوة لاستئصالهم، لكن عقله المعلب، لا يتصور التنظيم إلا حزبًا أو جماعة، وذهنه الرومنسي لا يتصور الشاب إلا في قضية عادلة، حتى لو حمل الخراطيش، والطبنجات، والمطاوي، والمولتوف، وأحرق المقرات، وحدف الطوب، وقتل شبابًا آخرين، وتعاطى الحشيش، وشرب الخمر، وأحال خيم الاعتصام إلى مباغي متنقلة!
وما ذنب الإخوان، إذا كان هناك من قتله الغرور، والوهم بأن الله تعالى خلق الخلق في 25يناير، وأن كل من كان قبل ذلك، إنما كان عدمًا، فما تخيل أبدًا أن يتخذ الإخوان مسارًا سياسيًا خاصًا بهم، لا يخضع لوصاية هذا المهووس بادعاء إشعال الثورة، وتغيير مطلع الشمس!
وما ذنب الإخوان، إذا كان بعض هؤلاء الشباب، إذا لم يجد له موقعًا في الحياة السياسية الجديدة، أو في قنوات الفلول كأحد النجوم المشعلين للثورة، ولم يثر بتأليف كتاب يروي ذكرياته مع إشعال الثورة، لم يجد بدًا، من جعل الثورة أيديولوجية مستمرة، فلا حياة إلا بمعارضة الحكم والحزب الأكبر في المشهد السياسي، بنفس أساليب ومفردات ووسائل معارضة نظام الاستبداد والطغيان السابق، بل وأشد! ففي الثورة على مبارك كان القتلى من الثوار! بينما في "الثورة" على الإخوان القتلى من الإخوان!
ولسوف تعجب، وأنت تجد هذا "المثقف الإسلامي المتفوق"، وهو يقوم بإعادة تغريد كل تغريدة تتهم الإخوان بجريمة، دون تثبت، ولا تبين، هذا مع أنه يعلّم الناس المنهج العلمي، لكن من أين لمن يتحرج من التصاقه بإسلاميته أن يبقى لديه ذرة من منهج علمي، ولا يتورط في نشر الأكاذيب؟!
وكان يجدر به أن يتذكر قول ربه تعالى الذي تعلمه من هؤلاء الإسلاميين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، ومن الإسلاميين وحدهم يتعلم القراءة الأخرى للآية: {فَتَثَبَتُوا}، عله يتذكر كم هو المنهج العلمي الإسلامي دقيق، يطالبك بالتثبت من صحة المعلومة أولًا، وثم من دلالتها ومعناها وسياقها وملابساتها ثانيًا، ولا شك أن هذا "المثقف المتفوق"، يذكر حديث النبي : " كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا، أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ"، لكن هذا المثقف الذي يرى العالم أسفله وهو يعتلي تويتر، صار مغروسًا في وعيه أن يصدق كل نقيصة عن تلك الجماعة "المحنطة"!
ولن ينقضي عجبك، من أكاديمي، منظر، كفر بالجماعات، والتنظيمات، ويريد تغيير العالم، بخمسة كتب، وعشر دورات، وعنوان عريض، وما فعل أكثر من إخراج بضع مجموعات من الشباب الذي لا يكاد يرى أحدًا، ويصل به حد الوقاحة أن يزدري كل من في جماعة، حتى لو كان يبذل الروح والدم، بينما هو ينتفش ببعض كلمات سفسطائية جوفاء، لا يفهم حتى هو مراده منا. وهذا عين ما يفعله أستاذهم المنظر ومصر تحترق، يحلل، ويفسر، وينظر، والمرء يجهد في تفسير معنى كلامه!
أو ذلك الشاعر، المجتهد في الانسلاخ عن ماضيه الديني، والتنكر لبيت العلم والدين الذي خرج منه، لم يجد ما يقوله، سوى أن الرئيس "الغبي" هو فقط الذي يوحد كل خصومه ضده، فعجز أن يقول للقاتل: قاتل، وكأن الباطل لا يجتمع إلا على غبي، وقد سبق واجتمعت الأحزاب على نبي! بل وكان الاجتماع في مصر ضد الرئيس، وإشعال الحريق قبل الإعلان الدستوري!
أو ذلك الشاعر الشاب، الذي تذكر فجأة أن مرسي لم يقطع العلاقات مع أمريكا وكيان العدو، في جرعة مزاودة مهولة، لا علاقة لها بالأحداث، ولا بالظالم والمظلوم فيها، لكنه فايروس الحديث عن المقاومة وتفكيك الاستعمار الذي يمرض به فاقدو الرصيد المقاوم الفعلي من الشباب المثقف الذي يداري قعوده وعجزه وقصوره برفع السقف في خطاب مقاوم عديم الجدوى الفعلية، إذ كيف يمكن لبلد يضطرب أشد الاضطراب من بعد ثورة، أن يعلن الحرب على العالم؟! وكان الأجدر بالشاعر، طالما أن هذه القضية تأرقه إلى هذا الحد المفقد للوعي، وهو فلسطيني ولم يزل شابًا، أن يلتحق بالمرابطين، وغزة قريبة، بدلًا من بيع الماء في حارة السقائين!
وما ينبغي قوله في هزيمة "المثقف المتفوق" في قضية عادلة، أكثر، لكن ما قيل قد طال، وإلا فحتى ذريعة الإعلان الدستوري التي اتخذوها لإشعال مصر وإسقاط الرئيس المنتخب، فيها الكثير من التضليل الذي يمكن نسفه، وما كانت الإطالة، إلا حتى لا نتورط في الكلام المرسل، الذي يعوزه الدليل، أو القائم على المعلومات المجزوءة أو التحليل الخرافي أو محض الوهم، كما يفعل هذا "المثقف المتفوق"؛ فإنني لا أعتقد أن على الناس أن تسلم لي بمجرد قولي، كما يحسب ذلك الذي ظن نفسه أزاح الشمس وجلس مكانها، فما على الناس إلا التنعم بإشراقاته!
ولعل أحدًا لن يفهم من هذا إلا أنني قد جعلت الإخوان ملائكة بلا ذنوب، بيد أني قد تعودت أن الشرف يقضي في اللحظة الحرجة، التي تمتاز فيها الصفوف، ما بين ظالم ومظلوم، أن أقول: هذا ظالم، وهذا مظلوم، أما أخطاء المظلوم فلها مقامها الذي يناسبها، ولا يليق أن نجرح نصرتنا للمظلوم بذمه ونقده في مقام نصره.
ولستُ مضطرًا والله، للقول إنني طالما انتقدتُ الإخوان، واختلفت معهم، كما يفعل بعض من يذمهم إذا أراد إنصافهم، في حالة عجيبة، لا يكاد يجد المتابع لها مثيلًا إلا في حال كتب أحدٌ منصفًا للإخوان، وكأن إنصافهم خطيئة توجب التفسير والاعتذار!
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية