حسين عطوي
انهارت استراتيجية الحماية الأمنية التي وفرتها اتفاقية كامب ديفيد للكيان الصهيوني، وسقطت فرضية أن الجبهة الجنوبية قد باتت آمنة بالنسبة ل"إسرائيل".
وانتهى عهد التطاول الإسرائيلي على سيادة مصر من دون أن يلقى رداً مصرياً، ومن دون أن يؤدي إلى تداعيات سلبية على العلاقات المصرية - الإسرائيلية.
واستطراداً سقطت نظرية الجيش الإسرائيلي بالاعتماد على الجانب المصري في تأمين الحدود، وحماية أمن الكيان الصهيوني.
هذه هي النتائج، أو الاستخلاصات التي خلصت إليها الصحافة الصهيونية بعد الزلزال الذي أحدثته سلسلة عمليات المقاومة النوعية التي حصلت مؤخراً في مدينة إيلات في جنوب فلسطين المحتلة.
غير أنه بالمقابل أدت عمليات إيلات إلى توجيه صفعة قوية للمراهنين على إعادة مصر إلى بيت الطاعة الأميركي الصهيوني، كما أدت إلى إسقاط محاولات حصر الثورة المصرية بمطلبي الحرية، والديمقراطية بعيداً عن طرح أية مضامين سياسية مرتبطة بموقع، ودور مصر بما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني، والموقف من قضية فلسطين، والمقاومة ضد الاحتلال الصهيوني.
فالمراقب للتطورات الحاصلة في مصر بعد نجاح الثورة في خلع حسني مبارك حليف العدو الإسرائيلي يلحظ أهمية الصراع الذي كان يدور حول الموقف من اتفاقيات كامب ديفيد، وإن كان هذا الأمر لم يكن بصوت عال، وكان واضحاً أن هناك اتجاها سعى منذ البداية إلى عدم طرح هذا الموضوع، من ضمن أولويات الثورة، تحت شعار أن هذا الأمر مرتبط بقرار الشعب المصري، وبالتالي بالانتخابات القادمة التي ستأتي بمجلس نيابي يعبر عن الإرادة الشعبية يحدد هو كيفية التعامل مع هذه الاتفاقيات، إلغاء، أو تعديلا، ويبدو للمتابع أن هذا الصراع، الذي لم يتوقف، كان يظهر إلى السطح تارة، ويخفو تارة، ويرتبط به مصير الثورة، وما ستؤول إليه.
ولا يخفى أن المجلس العسكري مدعوما من بعض القوى السياسية الطامحة لبلوغ السلطة، وفي مقدمها جماعة الإخوان المسلمين، يبذلون جهودهم، قبل وبعد نجاح الثورة في خلع الرئيس حسني مبارك عن سدة الحكم، للحد من طموحات الثورة بإحداث تغيير حقيقي في نظام الحكم وسياساته، خاصة تلك المرتبطة بدور مصر المركزي في تنفيذ الأجندة السياسية الأميركية في المنطقة، وقيادة محور الاعتدال العربي الدائر في فلك المشروع الأميركي في المنطقة، إلى جانب دور مصر في توفير الحماية الأمنية للكيان الصهيوني، التي نصت عليها اتفاقيات كامب ديفيد.
ولذلك حرص المجلس العسكري في محطات عديدة على تأكيد الاستمرار بالالتزام بالاتفاقيات الدولية التي وقعتها مصر مع كل من الولايات المتحدة وكيان العدو الصهيوني.
وكان واضحاً الدور الأميركي في العمل على ضمان استمرار مثل هذا الالتزام المصري الرسمي، والذي تمثل في سعي الإدارة الأميركية لتأمين الغطاء السياسي للمجلس العسكري للحفاظ على هذا الالتزام، من خلال مسارعتها إلى فتح حوار مع تنظيم الإخوان المسلمين، والحديث بعد ذلك عن التوصل إلى تفاهم يعطي الإخوان دوراً في إدارة المرحلة الانتقالية، إلى جانب تخلي واشنطن عن اعتراضها على وصول الإخوان إلى الحكم عبر الانتخابات، في مقابل أن يكونوا جزءاً من مظلة سياسية تضمن بقاء مصر على تحالفها مع الولايات المتحدة، وهو ما تكشف بعد اتضاح الدور التركي في هذه الصفقة التي يلعب فيها حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان دور المشرف على تحقيق هذا الهدف الأميركي لإجهاض الثورة، في إطار تقاطع المصالح بين أنقرة وواشنطن.
لذلك لم يكن هناك من شك في أن نجاح الثورة في بلوغ أهدافها بالتغيير الحقيقي مرتبط بالضرورة بتحقيق هدف إسقاط النظام بكل سياساته الخارجية، والاقتصادية والاجتماعية، وإقامة نظام جديد يعتمد سياسات تستجيب لطموحات وأماني الشعب المصري الذي ينشد تغييرا يضع حداً للفقر، والحرمان الذي يئن تحت وطأته، ويعيد لمصر دورها القومي في دعم، ومساندة القضية الفلسطينية.
فالحرية، والديمقراطية من دون مضمون اقتصادي واجتماعي، وتحديد موقف وموقع مصر من الصراع مع الكيان الصهيوني، لا معنى لها، وهي لن تفضي عمليا سوى إعادة إنتاج سياسات مبارك لكن بقالب جديد تتمخض عنه الانتخابات النيابية والرئاسية.
في ظل هذا المناخ جاءت عمليات إيلات لتغذي هذا الصراع، وتعطي دفعاً قوياً للاتجاه الذي يربط بين تحقيق أهداف الثورة في التغيير، وبين ضرورة وضع حد لاتفاقيات كامب ديفيد التي تكبل مصر بقيود التبعية السياسية، والأمنية والاقتصادية للكيان الصهيوني والولايات المتحدة.
وتجلى ذلك في التفاعل السريع للثورة مع عمليات إيلات وتداعياتها التي تمثلت بإقدام قوات الاحتلال الصهيوني على قتل خمسة جنود مصريين، ورد جماهير الثورة بالتظاهر أمام السفارة الإسرائيلية في القاهرة ومحاصرتها، وإنزال العالم الصهيوني، ورفع العالم المصري بدلا منه، والمطالبة بطرد السفير الإسرائيلي، ومسارعة الحكومة المصرية، تحت ضغط الثورة، إلى اتخاذ قرار بسحب السفير المصري من تل أبيب، ومطالبتها بالاعتذار.
وإذا كانت تل أبيب قد سارعت إلى امتصاص الغضب الشعبي المصري عبر إبداء أسفها لما حصل، وتخفيف حدة التوتر على جبهة قطاع غزة، والامتناع عن التفكير بشن عدوان واسع على القطاع، خوفاً من أن يؤدي إلى حصول قطيعة بين مصر و"إسرائيل".
إلا أن ما جرى بعد ذلك من تطورات في مصر تجلت باستمرار حصار المتظاهرين للسفارة الإسرائيلية، وانتقال الثورة إلى طرح شعار إلغاء اتفاقيات كامب ديفيد أظهر أهمية وتأثير البعد القومي للصراع مع العدو الصهيوني على نضال الثورة المصرية لأجل أحداث التغيير الحقيقي الذي يعيد مصر إلى موقعها الريادي في الصراع العربي الصهيوني، وينهي حقبة كامب ديفيد.
من هنا يمكن القول إن عمليات إيلات كشفت التأثير المتبادل، للثورة المصرية، والمقاومة ضد الاحتلال، في الصراع ضد العدو الصهيوني من جهة ، والصراع لتعزيز الخط الراديكالي التغييري في مصر من جهة ثانية، فالثورة المصرية خلخلة بنيان نظام كامب ديفيد، وأوجدت توازناً سياسياً جديداً خلق مساحة من الحرية لعودة نشاط المقاومة من سيناء ضد الاحتلال الصهيوني في جنوب فلسطين المحتلة، وبالتالي إحياء الجبهة الجنوبية، وعمليات المقاومة بدورها أسهمت في تعزيز الخط الثوري في الثورة المصرية الساعي لإحداث تغيير جذري في النظام السياسي المصري لصالح بناء نظام جديد يشكل قطيعة مع حقبة كامب ديفيد التي كانت السبب الأساسي في إفقار الشعب المصري وسلبه حريته، وكرامته، وتحويل جيش العبور، من مساند للشعب الفلسطيني ومقاومته، إلى حام لأمن الكيان الصهيوني.
انطلاقاً مما تقدم فإن عمليات إيلات أدت إلى:
1 ـ زيادة منسوب القلق الصهيوني من أن تنجح الثورة المصرية في الإطاحة بالمكاسب التي حققتها "إسرائيل" من توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، بعد أن أدت الثورة إلى إعادة إشعال الجبهة الجنوبية مع العدو الذي استفاق بعد ثلاثة عقود ونيف على تلاشي الهدوء الذي نعم به على جبهة سيناء، وعاد مجدداً إلى نقطة الصفر في مواجهة مقاومة تستند إلى عمق شعبي متأجج عداءً للكيان الصهيوني.
2 ـ توجيه ضربة للمحاولات الدؤوبة التي يقوم بها المجلس العسكري مدعوماً من بعض القوى السياسية ، والولايات المتحدة الأميركية لأجل محاصرة الثورة وجعل مطالبها تقتصر على مسائل تتعلق بالحريات العامة، والقضايا الاجتماعية وذلك لإبقاء مصر مكبلة بقيود الاتفاقيات الموقعة مع العدو الصهيوني والولايات المتحدة.
لذلك بقدر ما يزداد الترابط بين البعد القومي للصراع مع العدو الصهيوني، وبين البعد الاقتصادي الاجتماعي في نضال الثورة المصرية، بقدر ما يتم إحباط محاولات إجهاض الثورة والالتفاف على أهدافها في انجاز التغيير الشامل، وفي هذا السياق فإن تصعيد عمليات المقاومة ضد الاحتلال، أن كان من سيناء، أو من قطاع غزة يشكل عاملاً مهماً يسهم في محاصرة القوى المضادة للثورة في مصر، ويزيد من مأزق العدو الصهيوني، الذي كلما لجأ إلى التصعيد في عدوانه، وانتهاك سيادة مصر، كلما أدى ذلك إلى تجذر حركة الشارع المصري، واضطر المجلس العسكري، والحكومة المصرية إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات التي تستجيب لمطالب الشعب بقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وتقديم الدعم لنضال الشعب الفلسطيني ومقاومته.
من هنا فان كيان العدو الإسرائيلي يواجه وضعا جديدا لا يستطيع إدارة الظهر له خاصة وأن عودة سيناء لتتحول إلى ساحة لنشاط المقاومة يشكل بالنسبة إليه تحدياً أمنياً كبيراً يجعله مضطراً إلى تركيز جهوده لمواجهة هذا التحدي الجديد الذي يزيد من التوتر، ويثير بدوره المزيد من غضب الشعب العربي في مصر ويوفر الأرضية لعمل المقاومة من سيناء وقطاع غزة.
وفي هذا السياق يدور نقاش داخل كيان العدو بشأن خطورة الوضع الناشئ في سيناء بعد الثورة المصرية والذي تفاقم بعد عمليات إيلات، وبرز ذلك من خلال:
- إعلان زعيمة حزب كاديما تسيبي ليفي أن الحدود المشتركة مع مصر لم تعد حدود سلام.
- حديث الصحافة الصهيونية عن العودة إلى الشرق الأوسط القديم، والتركيز على أن النتائج المترتبة على عمليات إيلات كانت سلبية جداً بالنسبة ل"إسرائيل"، وأن الرد يكون بالتعجيل في استكمال بناء الجدار الحدودي.
- لكن بالمقابل تشير الصحافة الصهيونية إلى أن الخبراء الإسرائيليون منكبون على رسم خطة تقضي باستغلال "إسرائيل" للصراع الجاري حالياً في مصر، للقيام بشن حملة سياسية وإعلامية ودبلوماسية تركز على أن سيناء تحولت إلى مصدر تهديد لأمن "إسرائيل"، وذلك لتنفيذ واحد من السيناريوهات التالية:
سيناريو أول: قيام الجيش الإسرائيلي بعملية عسكرية يحتل خلالها الشريط الفاصل بين مصر وفلسطين المحتلة، وكذلك محور فيلادلفيا على حدود قطاع غزة لمنع تسلل مقاومين إلى جنوب فلسطين المحتلة، وتتفيذ عمليات جديدة على غرار عمليات إيلات الأخيرة، وللحيلولة أيضاً دون استمرار عمليات تهريب السلاح من سيناء إلى قطاع غزة.
سيناريو ثان: قيام الجيش الإسرائيلي باحتلال كامل صحراء سيناء لأجل ضبط الوضع ومنع تحولها إلى ساحة مريحة لنشاط المقاومة ضد الكيان الصهيوني، والداعون إلى ذلك يدعمون رأيهم هذا بالقول إن احتلال الشريط الحدودي الفاصل لا يكفي لمنع عودة تسلل مقاتلين إلى داخل جنوب فلسطين المحتلة، أو الحيلولة دون استمرار تهريب السلاح إلى غزة، لكون المنطقة الحدودية منطقة واسعة وجبلية يصعب السيطرة عليها بالكامل.
سيناريو ثالث: موافقة الحكومة الإسرائيلية على تعديل اتفاقية كامب ديفيد بما يسمح للجيش المصري بإرسال قواته إلى سيناء لفرض السيطرة على الوضع هناك، لكن المسؤولين الصهاينة يشككون في قدرة المجلس العسكري الحاكم على ضبط الوضع خاصة وأنه بات أسير ميزان قوى جديد نتيجة استمرار الثورة، وتأجج عداء الشعب العربي المصري ضد الكيان الصهيوني.
ويبدو واضحا من خلال التدقيق في هذه السيناريوهات أن العدو الصهيوني يواجه وضعاً صعباً وخطراً، فإن هو لجأ إلى احتلال سيناء، أو الشريط الحدودي، فإنه سيؤدي إلى تأجيج الثورة المصرية ضده، وبالتالي إلى دفع جماهير الثورة إلى إجبار المجلس العسكري والحكومة على اتخاذ قرار تجميد العلاقات مع "إسرائيل"، والتصدي للعدوان الصهيوني على مصر، وبالتالي سقوط اتفاقيات كامب ديفيد، وما يعنيه ذلك من تداعيات ستفضي إلى تبدل موازين القوى في غير مصلحة "إسرائيل".
أما محاولة قيام المجلس العسكري بمهمة حماية أمن "إسرائيل"، كما كان يفعل حسني مبارك، فإنها ستؤدي إلى استثارة غضب شعبي، ودفع الثورة إلى الانتقال إلى مرحلة إشهار العداء ضد المجلس، والدعوة إلى الإطاحة به، كما إطاحة بالرئيس مبارك، ما يعني اندفاع الأمور نحو التغيير الجذري الراديكالي، وسقوط مخطط إجهاض الثورة ومحاولات إبقاء مصر مكبلة بقيود اتفاقيات كامب ديفيد والتبعية للسياسة الأميركية.
في ضوء ما تقدم يمكن القول إن معركة الثورة المصرية لإلغاء اتفاقيات كامب ديفيد قد بدأت، ونتائج هذه المعركة هي التي ستقرر مستوى وسقف التغيير، وما إذا كانت مصر ستتحرر من قيود التبعية للولايات المتحدة، والعدو الصهيوني، وبالتالي ستعود إلى لعب دورها القومي الداعم والمساند للشعب العربي الفلسطيني ومقاومته.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية