وفاء ورجاء على ساحل الأخ القائد خالد مشعل
ماجد الكاتب
رغم سماعي عن أبي الوليد قبل محاولة اغتياله، فإن وعيي -كما أكثر الناس- كان قد تفتح عليه بعد تلك المحاولة الآثمة، ثم استقر في وجداني بتتعبي لمسيرة هذه الحركة ومعرفتي بنبل هذا القائد ودوره البالغ في الحفاظ على ثوابت الحركة ومنطلقاتها الأساسية تقدير راسخ ما هزته عواصف الغدر المظلمة، وإن كانت قد أدمته أنياب الخصومة الفاجرة الساعية لإسقاط هذه القامة الوطنية، و"الأيقونة" الإسلامية لأسباب متباينة، ومن أطراف مختلفة.
ولم يكن من طبعي -غالباً- الكتابة مادحاً في الأحياء، فالشهداء أولى بأن يشغل المرء نفسه في بيان مآثرهم وأفضالهم وشهادتهم على الخلق وصنيعهم في تربية الناس بدمائهم وإطلاق أرواحهم، وهل ثمة تعبير حقيقي عن قيمة الحرية وتجريد التوحيد لله سوى صنيع الشهداء الذين لم يحرروا أرواحهم من عبادة الأجساد التي تسكنها والانقياد خلف هوى النفس الطاغي فيها وحسب، بل حرروها من الدنيا كلها، إلى مجهول لا يطؤه راغباً إلا كامل اليقين، والشهداء أولى بالاتباع فقد تأكد ما انتهوا إليه ووجب المضي على ما قضوا عليه.
غير أن الكتابة عن أبي الوليد -حفظه الله- لها أسبابها، وليس أقل تلك الأسباب أهمية؛ شكر الرجل على ما كان عليه من خير تجاوز ذاته وتعداه إلى غيره، فإن كان مثل أبي الوليد قوياً بحركته مسنوداً بجماهيرها محمياً بتضحيات أبنائها، فقد كان في المقابل وفياً لذلك كله حريصاً عليه متمسكاً به إرثاً ورصيداً وثقافة وزاداً وثوابت.
ولما تسرب الخبر الذي أفاد أن أبا الوليد أعلم مجلس شورى حركة حماس في اجتماعه الأخير عزوفه عن الترشح لدورة تنظيمية جديدة، صار بيان الوفاء لأبي الوليد واجباً، مع أني ما كنت لأخوض في هذا الأمر قبل حينه لو بقي داخل مؤسسات الحركة إلى وقت البت فيه، لولا تسريب الخبر الذي دل على مظاهر اعتلال لا صحة وسلامة، فاجتماعات حركات المقاومة لا تحتمل مثل هذه التسريبات بصرف النظر عن الدوافع التي تقف خلفها، ثم كان واجباً بيان الحق فيما ضلت فيه كثير من التحليلات غفلة والأخبار عمداً.
وبداية لا بد من بيان عدة ملابسات تتعلق بقرار أبي الوليد هذا:
1. لا يزال بإمكان أبي الوليد الترشح لدورة أخرى وأخيرة، فالقرار لا يتعلق بالقوانين الداخلية، وإنما بقرار ذاتي من الأخ القائد خالد مشعل، مصدره ما أحسبه إخلاص الرجل -والله حسيبه-، وإخراج حظ النفس من صدر عامر بكتاب الله تعالى، وأن يبدأ بنفسه في خدمة الحركة على نحو مختلف وذلك بإسداء النصح البالغ لها عملاً لا مجرد قول، بأن المرحلة لم تزل مرحلة مقاومة رغم ما فتح الله عليها من فتوحات التمكين والسعة والانتشار وثقة الناس ومحبتهم، ففلسطين لم تتحرر، والحصار عن الحركة لم يرفع، والسجون لم تزل تنهش في أعمار خيرة أبناء الوطن والحركة، ودماء الشهداء على خضرتها الأولى، وحركة لا يزال هذا حالها، فإنها أحوج ما تكون إلى عمارة الصف بالإخلاص التام، والاعتبار الكامل لدماء الشهداء والتضحيات التي بذلت وهذا لا يتأتى إلا بتخليص الصف من نزغات الشيطان ووساوس النفس، فالحركة ليست ملك أحد أو موقع، فإذا كنا قد أمرنا أن نصدّق قولنا بالعمل، فقد كان أبو الوليد أبلغ وهو يفعل دون قول، تاركاً المتخرصين يتخبطون في أهوائهم كالمصروع بمس شيطان!
2. حاول البعض النيل من المعاني النبيلة لهذا القرار، واختلقوا خبراً مفاده أن هذه الخطوة جاءت في سياق الاستعداد لرئاسة المجلس الوطني، ولأن الخبر محض كذب ولا أساس له من الصحة، فإن اختلاقه دليل على مستوى الانحدار الأخلاقي الذي وصل له بعض خصوم حماس عموماً وخصوم أبي الوليد خصوصاً، ويكفي بالكذب عيباً يخرم الرجولة ويطرح المروءة دركاً سافلاً، وقد كان يأنف منه المشركون في جاهليتهم، كما في الحديث في صحيح البخاري عن أبي سفيان وقد سأله هرقل عن النبي محمد وقد كان ما بين أبي سفيان وهو مشرك والنبي من العداوة الدامية ما هو معلوم: (فَوَالله لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ)!
3. اتخذ أبو الوليد هذا القرار وهو مطمئن النفس، في رمضان العام الماضي، في استخارة لله تعالى في بيته الحرام، وبعد أن أتم حفظ كتاب الله تعالى، ليكون قراره متخلقاً من رحم أجواء إيمانية عاشها تاركاً ضميره لخالقه وحده، مستأنساً بالله دون العالمين، وأصر على ألا تفارقه هذه الأجواء وألا يفارقها.
وإذا كان أكثر من تحدث عن الموضوع من الأخوة المخلصين المحبين للحركة ولأبي الوليد ركّزوا على الدلالات المتعلقة بالشورى الحركية، وقوة الحركة ووفرة الكفاءات فيها، فإن ثمة ما ينبغي أن يقال عن رجل قاد الحركة تلك الفترة التي اجتازت فيها أصعب المحن إلى انتصارات معجزة، وإذا كان لا يمكن بحال أن ينسب أي إنجاز في حركة كحماس لشخص واحد أو للقيادة وحدها، فإن الحركة بكل تأكيد كيان بشري لكل شخص فيه أثره ودوره، والحديث هنا عن شخص أبي الوليد:
1. لم تكن دولة الاحتلال لتغامر باختراق أمن وسيادة دولة عربية كانت اتفاقية السلام معها لا تزال طازجة، لولا ما تشكله شخصية أبي الوليد من أرق للاحتلال، وإذا رجعنا للفترة التي جرت فيها محاولة الاغتيال هذه، أي إلى العام 97، فإننا سوف نستذكر ما مرت به الحركة من حيرة خانقة بعد توقيع اتفاق أوسلو وتشكيل السلطة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، حيث باتت أمراً واقعاً لا مناص من اتخاذ موقف حياله، وقد كان دور قيادة الخارج في ذلك الحين وعلى رأسها الأخ القائد خالد مشعل حاسماً في الحفاظ على ثوابت الحركة، والتمايز عن مشروع السلطة، والتمسك بالمقاومة فكراً وممارسة؛ وهذا الإصرار على التمايز والعض على الجمر كان سبباً أساسياً بعد عشر سنوات في فوز الحركة الكاسح في الانتخابات التشريعية، ولو أن الحركة في ظروفها تلك انخرطت في ذلك المشروع -كما كان رأي بعض الأوساط فيها- لامتزجت بما اعتراه، وتحملت ما ترتب عليه، وكانت في عين الناس وفتح شيئاً واحداً.
2. تمثل النموذج الوطني المتكامل في شخص الأخ خالد مشعل، حيث قدم خطاباً وطنياً أصيلاً، يحرص على التمسك بالثوابت التي وقبل أن تكون عين منطلقات حركة حماس، فإنها الثوابت التاريخية للشعب الفلسطيني، وفي الوقت نفسه لم ينزلق للمناكفات والمهاترات التي احترفها خصوم حركة حماس في الساحة الفلسطينية، متخذين من شخص أبي الوليد هدفاً لهجمات مسمومة لإسقاط شخصية وطنية كاريزمية جامعة، وشخصية وطنية صلبة؛ في تمسكها بالثوابت وخط المقاومة تشكل عقبة من خلال قيادتها لحركة بحجم حماس في وجه المشاريع التصفوية للقضة الفلسطينية، وقد ترفع أبو الوليد عن مجاراة هؤلاء، بل وعلى العكس رفع مظلمته إلى الله، واستمر في لغته الجامعة، ولعله من النادر أن تجد رجلاً يذكّر خصمه السياسي بمآثره التاريخية وأفضاله على القضية الوطنية، ولا شك أن حركة تريد لنفسها أن تقود شعباً تتعدد حلقاته التاريخية وتتباين فصائله السياسية وتختلف شرائحه الاجتماعية بحاجة إلى شخصية بهذا القدر من التسامي والقدرة على الجمع، والتعالي على الجراح الشخصية، والإدارك لطبيعة المسؤولية العامة والتزاماتها أمام المحب والمبغض، فالله لم يحمل الناس كرهاً على الإيمان به، أفيمكن حمل الناس كرهاً على القناعة بحماس أو أفرادها قيادة وعناصر؟
3. وإذا كان أبو الوليد رفيع المروءة ونقيها مع البعيد من الخصوم، فإنه تام المروءة مع إخوانه من أبناء الحركة، فإن أية حركة بشرية عرضة لتحريش الشيطان كما قال النبي : (إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)، فما عرف عنه أن تلبسه العيب وذكر أخاً له بسوء أمام طرف خارج الحركة، وإنما كان دائم الانحياز للحركة لا لذاته، حريصاً على جمال صورتها وحسن طلتها أمام الآخرين من فلسطينيين وعرب وأجانب وإعلام، ممتثلاً لقول الله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ للإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا).
4. وقد تجلت الروح المتسامية تلك، والمأثرة القيادية للأخ خالد مشعل، في احتماله عن حركته الطعنات، على ما في ذلك من ظلم بالغ لشخصه، ومثل هذه الروح لا تسري إلا في وجدان الكبار وحسب، فقد عبّر أبو الوليد عن مواقف الحركة وإن كانت تخالف قناعاته الشخصية أو رأيه المعلن داخل مؤسسات الحركة، أو حتى وإن ظهرت بعض المواقف لبعض مكونات الحركة في غفلة من الشورى، عبّر عنها وكأنه صاحبها، مؤثراً صورة الحركة على صورته، ووحدتها أمام الرأي العام أو الخصوم على حظوظ نفسه، ومعنويات قواعد الحركة على مشاعره، وهذا هو الجمع بين القوة والأمانة، وحسن الإدارة مع الصلاح، وحركات المقاومة لا يصلح أن يقودها إلا من كان عظيم النفس جائداً بلحمه تمضغه الأفواه في سبيل القضية الوطنية العليا، وفي سبيل وحدة الحركة، وفي سبيل تراث التضحيات الكبير الذي لا يملك أحد أن يهدره لحظ نفس أو لأي سبب كان وتحت أي ذريعة كانت.
وهذا الأمر لا يُرد إلى الدين وحده، بل إن القائد الحقيقي، هو بخلاف النموذج الذي يستدل عليه الساسة عادة بالدهاء في إقصاء المنافسين وتصدير الذات، فالمصالح العليا خاصة لحركات المقاومة لا تحتمل هذا العبث، والقائد الحقيقي هو الذي يفهم معنى القيادة ويدرك أن من قبل لنفسه أن تقود فعليه أن يتحمل تبعات ذلك من تمثيل مواقف الحركة، أو تحمل اخطائها، أو تلقي الهجمات نيابة عنها، وهو الذي يدرك أن من لوازم القيادة وضروراتها احتمال النقد بل والتجريح! فالشخصية العامة، خاصة تلك التي تتعلق بها مصائر أوطان وشعوب ينبغي أن تعي وتلتزم هذا أتم الوعي وأحسن الالتزام، فإذا كان النبي احتمل من الناس الأذى وسوء الفهم وهو نبي الله الذي يوحى إليه، فكيف بمن هم دونه؟ إن الذي يقود سوف يجد حسن الفهم وسيئه، وسليم النية وفاسدها، والمحب والمبغض، بل إن الذي يقود يخطئ حتماً، وكذا تخطئ جماعته التي يقودها، ومن لم يتنبه لذلك، أو يجاهد نفسه لتقبل هذه الحقائق فإنه لا يصلح للقيادة لأنه في مثل هذه الحالة يقدم نفسه على الجماعة، ويتبع نفسه هواها، ويهدر قيم الحرية، ويكرس لمعاني الاستبداد، أما أبو الوليد فما عرفنا عنه مرة أنه انشغل في الدفاع عن نفسه، أو رد نقد طاله، لأنه أدرك ماذا يعني أن يكون قائداً، وقائداً لحركة كحماس محملة بهذا الثقل الهائل من التضحيات، وتتصدى لمهمة تحرير فلسطين وشعبها والنهوض بالأمة كلها، كما أنه كشف عن وعي عميق بأن ما وصلت إليه الحركة وهو على رأسها ما كانت لتصل إليه لولا تضحيات أبنائها وثباتها على منطلقاتها.
في هذا السياق من الوعي والتجرد والفهم العميق للمسؤولية يأتي قرار أبي الوليد، رغم شعور قطاعات واسعة داخل الحركة بأن الحركة لم تزل تحتاجه، وأن وجوده في هذه الفترة الحساسة والحرجة ضروري لعبورها بأمان، لكن إذا صلحت نوايا الجميع فإن الحركة سوف تجتاز هذه المرحلة إن شاء الله؛ غير أن أبا الوليد قد عودنا على حرصه الفذ على مؤسسات الحركة وآليات اتخاذ القرار فيها وقواعد عملها، ولطالما امتثل لرأي إخوانه، ونزل عند حاجتهم له، ومثله؛ والذي هكذا دائماً كان شأنه حقيق به أن يترك الأمر لمؤسسات الحركة، وأن يلتزم بما يقدره إخوانه، وأن يضرب مثلاً جديداً في التضحية للحركة بوقته وجهده وأعصابه ومشاعره فيلتزم بقرار إخوانه لو قدروا شيئاً بخلاف رغبته التي أبداها، فقد أدى ما عليه، ولن يتره الله عمله.
إن شكر أبي الوليد عليّ واجب طالما شعرت أنه خدم الحركة التي أُحِبُها بهذا القدر الذي ظهر لي من التجرد والرفعة والحفاظ على الثوابت، فالمرء بإخوانه يأنس بهم وبه يأنسون، وذكر فضائل الأحياء فيه تثبيت لهم وتثبيت لمن يذكرهم بذلك، وهذا داخل في التواصي بالحق والتواصي بالصبر، كما أن ما احتمله أبو الوليد من أذى دافعاً ثمن قيادته لهذه الحركة يترك له على إخوانه واجب الوفاء له ودفع الظلم عنه، وبيان شيء من فضله، والله تعالى يقول: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (*) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (*) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ)، وإني بكلماتي هذه لست أرجو إلا أن ينالي ما وعد به النبي في حديثه: (مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ، رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وهذا أقل واجبات الأخوة الإيمانية: (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية