يومُ النكبة يومٌ ذو مَكرَبة!
عيد عبد الحميد دحادحة
عيد عبد الحميد دحادحة
قرن المولى تبارك وتعالى في آية واحدة بين قتل النفس والإخراج من الأرض ، ممّا يوحي أنّ كلا منهما يوازي الآخر، فقال عزّ من قائل : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ) (النساء66) ذلك أنّ جبلّة الناس قائمة على أنّ ديارهم لأشباحهم كأرواحهم لأبدانهم !
وفي ذلك كفاية في هذا المقام ؛ مقام الحديث عن النكبة عن بسط الحديث عن لهيب الشوق المستعر في الصدور ، وعن الآهات والأنّات الحبيسة في القلوب ، وعمّا تختزنه الذاكرة من مشاهد وأحداث جسام ، لا تضمحل فتتلاشى ، بل تتنامى مع مرور الأيام !
فأهل فلسطين حين نزحوا عن ديارهم ظلماً وعدواناً سُلبت منهم أرواحهم في ذاك اليوم العصيب ، وما زالت تلك الأرواح تخيّم وترفرف على حدود الوطن ترتقب عودة أصحابها لتسلك عندها أرواحُهم في أجسادهم ، فيلتمّ شملُ الروح بالجسد أولاً ، ثمّ بالأرض والإنسان ثانياً فتفرّج كربتهم وتنتهي بعون الله غربتهم !وإن أذِنَ لنا بالتفاتة واعية منصفة إلى الذات في ذكرى النكبة الأليمة فحريّ بنا أن نصْدُقَ القولَ لنقرّ بأن الاحتلال أماتنا معشر الفلسطينيين ميتة واحدة ونحن أمتنا أنفسنا اثنتين ؛أماتنا الاحتلال ميتة واحدة حين احتلّ أرضنا ، وشرّد أهلنا ، ودنّس مقدساتنا ، وأزهق أرواحنا ، وارتكب المجازر المروّعة بحقّ أبناء شعبنا ، فيما نحن أمَتنا أنفسنا اثنتين ؛ مرّة حين صدّقنا عدوَنا وركنّا إلى وعوده ومواثيقه الزائفة فهدمنا ما هدمنا من الأسوار النفسيّة المَشيدة فيما بيننا وبينه منذ عقود ، ومِيتة أخرى حين صدّعنا جدار وحدتنا فتشتت شملنا ، وتفرّقت كلمتنا وخمدت لهيبُ نارنا ، وهدأت على الاحتلال عاصفتنا !وكلّ ذلك يجرّنا للقول : رويداً أهل فلسطين ساسة وشعباً ! إنها نكبات ونكبات .. بعضها فوق بعض ! فليس في النكبة نكبة فقط ! بل وفي تفتت شملنا نكبة ! وفي فرقة كلمتنا نكبة ! وفي تناكر قلوبنا نكبة ! وفي انشغالنا ببعضنا بعضا نكبة !وفي بقاء أسْرانا في غياهب السجون نكبة ! وفي تضييعنا لبوصلتنا النضالية نكبة ! وفي غفلتنا عن أولوياتنا نكبة ، وفي اختزال مطالبنا الوطنية نكبة ! وفي انقسام شطري الوطن نكبة ! وفي عيشنا بترقب وتربّص ببعضنا نكبة ، وفي توجّسنا خيفة من بعضنا بعضا نكبة ! وفي اصطلاء أشقائنا من الشعوب العربية بنير حكّامهم هي لنا نكبة ، حتى إذا ما تساءلنا : أنّى هذا ؟! جاءنا الجواب الذي يبيّن جِماع نكباتنا : ( قل هو من عند أنفسكم ) ( آل عمران 165) لذا فنكبتنا في أنفسنا تصدّق سائرَ نكباتنا أو تكذبها !!! ومتى محونا النكبة من أنفسنا بتنا قادرين على محوها من واقعنا !!فهكذا جرت النواميس الربانية ( إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ) ( الرعد11) وإذا كان ذلك كذلك : فأول خطوة على الطريق ، طريق الخروج من نكبتنا في أنفسنا هو : تخلية النفوس عن التعلّق بأوهامها وأهوائها وعوائدها ومصالحها الشخصيّة الحاجبة لها عن دَرْك الحقائق !وإلا فقد رأينا الآيات في الآفاق ؛ آفاق الواقع من حولنا ، ورأيناها في أنفسنا حتى تبيّن لنا الحقّ من الباطل والغثّ من السمين ! فلسنا بمعذورين البتة بعد اليوم بالاغترار بوعود وعهود انتظرناها منذ عقود فكانت النتيجة ( كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا )( النور39)أو طرق أبوابٍ أو الانحياز لخياراتٍ ما فتئنا نطرقها وننحاز إليها منذ أمد بعيد ، فكانت النتيجة أيضاً : ها هو الاحتلال على صدورنا جاثم موجود ، والأحزمة الاستيطانيّة تلفّ قدسنا وسائر ربوع وطننا فقطعت أوصاله وكبّلتنا بالقيود ، وها هم ذوو المؤسسات والهيئات الدولية على ملابسات الواقع ودقائقه شُهود ، لكنّهم للإرادة الصهيونية وإملاءاتها رُكّع سجود !! فليس ينفعنا بعد اليوم إلا التفاتة صادقة مخلصة متجرّدة إلى أنفسنا ، تجمعنا من فرقة ، وتعزّنا من ذلّة ، وتكثّرنا من قلّة ، وتنتشلنا من وهدة ، وتواسينا من همّ ، وتسلّينا من غمّ ، وتسرّي عنّا الشدائد والنّقم ! وتبعث فينا الأمل ، وتنفض عنا اليأس ، وتشدّ عزائمنا في البأساء والضرّاء وحين البأس !
وأخيراً : فلا أقول ( يا ليت قومي يعلمون ) لأنهم يعلمون ويُدركون ، ولكن يا ليتهم يُطبّقون ! ولسياساتهم يُراجعون ، ولحظوظ أنفسهم من أنفسهم يُخرِجون !
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية